أولاً ( سبحان الذي أسرى ) بلفظ الواحدِ ثم قال ( الذي باركنا ) بلفظ الجمعِ ثم قال ( إنه هو السميع البصير ) وهو خطاب غائبِ ولو جاء الكلام على مساق الأول لكان سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله ليريه من آياته إنه هو السميع البصيرِ وهذا جميعه يكون معطوفاً على أسرىِ فلما خولف بين المعطوف والمعطوف عليه في الانتقال من صيغة إلىصيغة كان ذلك اتساعاً وتفنناً في أساليب الكلامِ ولمقصد آخر معنوي هو أعلى وأبلغ .
وسأذكر ما سنح لي فيه فأقول لما بدأ الكلام بسبحان ردفه بقوله الذي أسرى إذ لا يجوز أن يقال الذي أسرينا فلما جاء بلفظ الواحد والله تعالى أعظم العظماءِ وهو أولى بخطاب العظيم في نفسه الذي هو بلفظ الجمعِ استدرك الأول بالثانيفقال ( باركنا ) ثم قال ( لنريه من آياتنا ) فجاء بذلك على نسق ( باركنا ) ثم قال ( إنه هو ) عطفاً على أسرىِ وذلك موضع متوسط الصفة لأن السمع والبصر صفتان يشاركه فيهما غيرهِ وتلك حال متوسطةِ فخرج بهما عن خطاب العظيم في نفسه إلى خطاب نائبِ فانظر إلى هذه الالتفاتات المترادفة في هذه الآية الواحدة التي جاءت لمعانٍ اختصت بهاِ يعرفها من يعرفها ويجهلها من يجهلها .
ومما ينخرط في هذا السلك الرجوع من خطاب الغيبة إلى خطاب النفسِ كقوله تعالى ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين فقضاهنّ سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماءٍ أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً ذلك تقدير العزيز العليم ) وهذا رجوع من الغيبة إلى خطاب النفسِ فإنه قال ( وزينا ) بعد قوله ( ثم استوى ) وقوله ( فقضاهن ) ( وأوحى ) والفائدة في ذلك أن طائفة من الناس غير المتشرعين يعتقدون أن النجوم ليست في سماء الدنياِ وأنها ليست حفظاً ولا رجوماًِ فلما صار الكلام إلى ههنا عدل به عن خطاب الغائب إلى خطاب النفس لأنه مهم من مهمات الاعتقادِ وفيه تكذيب للفرقة المكذبة المعتقدة بطلانهِ وفي خلاف هذا الرجوع من خطاب النفس إلى خطاب الغيبة