وكتب إليه من أهل القيروان : أبو محمد بن أبي زيد الفقيه وأبو أحمد بن نصر الداودي وغيرهما . وحدث عن جماعة كثيرة سوى من تقدم ذكره من رجال الأندلس ومن القادمين عليها . سمع الحديث منهم وكتبه عنهم وتكرر عليهم ووالي الإختلاف إليهم . وكان : من جهابذة المحدثين وكبار العلماء والمسندين . حافظا للحديث وعلله منسوبا إلى فهمه واتقانه عارفا بأسماء رجاله ونقلته يبصر المعدلين منهم والمجرحين وله مشاركة في سائر العلوم وتقدم في معرفة الآثار والسير والأخبار وعناية كاملة بتقييد السنن والأحاديث المشهورة والحكايات المسندة جامعا لها مجتهدا في سماعها وروايتها . وكان حسن الخط جيد الضبط جمع من الكتب في أنواع العلم ما لم يجمعه أحد من أهل عصره بالأندلس مع سعة الرواية والحفظ والدراية . وكان يملي الحديث من حفظه في مسجده ومستمل بين يديه على ما يفعله كبار المحدثين بالمشرق والناس يكتبون عنه .
أخبرني جماعة من أبي علي الغساني قال : سمعت القاضي أبا القاسم سراج ابن عبد الله يقول : شهدت مجلس القاضي أبي المطرف بن فطيس وهو يملي على الناس الحديث ومستمل بين يديه وكان له ستة وراقين ينسخون له دائما وكان قد رتب لهم على ذلك راتبا معلوما وكان متى علم بكتاب حسن عند أحد من الناس طلبه للابتياع منه وبالغ في ثمنه . فإن قدر على ابتياعه وإلا انتسخه منه ورده عليه .
أخبرني حفيده أبو سليمان أنه سمع عمه وغير واحد من سلفه يحكون أن أهل قرطبة اجتمعوا لبيع كتب جده هذا مدة عام كامل في مسجده في الفتنة في الغلاء وانه اجتمع فيها من الثمن أربعون ألف دينار قاسمية .
وأخبرنا أيضا : أن القاضي جده كان لا يعير كتابا من أصوله البتة وكان إذا سأله أحد ذلك وألحف عليه أعطاه للناسخ فنسخه وقابله ودفعه إلى المستعير فإن صرفه وإلا تركه عنده .
وتقلد قضاء الجماعة بقرطبة يوم الخميس ثلاث خلون من ذي الحجة من سنة أربع وتسعين وثلاث مائة . مقرونا بولاية صلاة الجمعية والخطبة مضافا ذلك كله إلى خطته العليا في الوزارة فاستقل بالعمل وتولى الخطابة ولم يستقصر في شيء من عمله وذلك في أيام المظفر عبد الملك بن أبي عامر قيم الدولة ثم صرف ابن فطيس عن القضاء والصلاة يوم السبت لخمس خلون من شهر رمضان المعظم سنة خمس وتسعين وثلاث مائة . وكانت ولايته للقضاء والصلاة تسعة أشهر ويومين . وكان مشهورا في أحكامه بالصلابة في الحق ونصرة المظلوم وقمع الظالم واعزاز الحكومة . له بذلك في الناس أخبار مأثورة .
حدث عنه من كبار العلماء أبو عمر بن عبد البر وأبو عبد الله بن عائذ والصاحبان وابن أبيض وسراج القاضي وأبو عمر بن سميق والطلمنكي وحاتم بن محمد وأبو عمر الحذاء والخولاني وأبو حفص الزهراوي وغيرهم . وجمع كتبا حسانا منها : كتاب القصص والأسباب التي نزل من أجلها القرآن في نحو مائة جزء ونيف . وكتاب المصابيح في فضائل الصحابة مائة جزء وفضائل التابعين لهم بإحسان مائة جزء وخمسون جزءا والناسخ والمنسوخ ثلاثون جزءا وكتاب الإخوة من المحدثين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المخالفين أربعون جزءا وأعلام النبوة ودلالات الرسالة عشرة أسفار وكرامات الصالحين ومعجزاتهم ثلاثون جزءا ومسند حديث محمد بن فطس خمسون جزءا ومسند قاسم بن أصبغ العوالي ستون جزءا . والكلام على الإجازة والمناولة عدة أجزاء . وغير ذلك من تواليفه . نقلت تسميتها من خط يده وكانت كتبه في مجلس جدواته بالخضرة وسمكه وسطحه والبرطل أمامه والبسط الذي فيه والنمارق كلها حضر .
قال أبو مروان بن حيان : توفي الوزير القاضي الراوية أبو المطرف بن فطيس صدر الفتنة البربرية يوم الثلاثاء للنصف من ذي القعدة سنة اثنتين وأربع مئة ودفن في اليوم المذكور بتربة سلفه على باب منازلهم وقرب مسجدهم وصلى عليه ابنه أبو عبد الله محمد . وكان مولده سنة ثمان وأربعين وثلاث مائة