قال الشيخ شمس الدين : وصنف في فنون العلم ولعل تواليفه وفتاويه في الأصول والفروع والزهد واليقين والتوكل والإخلاص وغير ذلك تبلغ ثلاث مائة مجلدة وكان قوالاً بالحق نهاء عن المنكر ذا سطوة وإقدام وعدم مداراة . ومسائله المفردة يحتج لها بالقرآن والحديث أو بالقياس ويبرهنها ويناظر عليها وينقل فيها الخلاف ويطيل البحث أسوة من تقدمه من الأئمة فإن كان أخطأ فله أجر واحد وإن كان أصاب فله أجران . وكان أبيض أسود الرأس واللحية قليل الشيب شعره إلى شحمة أذنيه كأن عينيه لسانان ناطقان ربعةً من الرجال بعيد ما بين المنكبين جهوريّ الصوت فصيح اللسان سريع القراءة تعتريه حدة ثم يقهرها بحلم وصفح توفي محبوساً في قلعة دمشق على مسألة الزيارة وكانت جنازته عظيمة إلى الغاية ودفن في مقابر الصوفية صلّى عليه الشيخ علاء الدين قاضي القضاة القونوي ولم يصلِّ عليه جمال الدين بن جمله . انتهى كلام الشيخ شمس الدين .
قلت : رحمهم الله أجمعين هم الآن قد رأوا عين اليقين فيما كانوا فيه يختلفون وما أظنه رأى مثله في الحافظة والاطلاع وأرى أن مادته كانت من كلام ابن حزم حتى شناعه على من خالفه وكان مغرىً بسبّ ابن عربي محيي الدين والعفيف التلمساني وابن سبعين وغيرهم من الذين ينخرطون في سلكهم وربما صرح بسب الغزالي وقال : هم قلاووز الفلاسفة أو قال ذلك عن الإمام فخر الدين . سمعته يقول : الغزالي في بعض كتبه يقول : " الروح من أمر ربي " وفي بعضها يدسّ كلام الفلاسفة ورأيهم فيها وكذلك الإمام فخر الدين الرازي كان كثير الحطّ عليه وكان مسلطاً على هؤلاء الفقراء الأحمدية واليونسية والقرندلية وغيرهم من هؤلاء المبتدعة . حكي لي أنه جاء إليه بعض الأحمدية وقال ما يقولونه على العادة في دخول التنور من بعد ثلاثة أيام وقود النار فيه فقال له : أنا ما أكلفك ذلك ولكن دعني أضع هذه الطوّافة في ذقنك فجزع ذلك الفقير وأبلس . قلت : وقد نقل الشيخ C تعالى هذا من قول بعض الشعراء في النار التي يزعم النصارى أنها تنزل يوم سبت النور من السماء إلى القمامة بالقدس : .
لقد زعم القسيّس أنَّ إلهه ... ينزّل نوراً بكرة اليوم أو غد .
فإن كان نوراً فهو نورٌ ورحمةٌ ... وإن كان ناراً أحرقت كلَّ معتد .
يقربها القسيس من شعر ذقنه ... فإن لم تحرقها وإلا اقطعوا يدي .
وسمعته يقول عن نجم الدين الكاتبي المعروف بدبيران بفتح الدال المهملة وكسر الباء الموحدة وهو الكاتبي صاحب التواليف البديعة في المنطق فإذا ذكره لا يقول إلا دبيران بضم الدال وفتح الباء . وسمعته يقول ابن المنجس يريد ابن المطهّر الحلّي . وكانت سمعته في البلاد البعيدة أكثر وأكبر وأشهر مما هي بالشام خصوصاً بلده دمشق . وكتب رسالة إلى صاحب قبرس يأمره فيها بالرفق بالأسارى المسلمين وتخفيف الوطأة عنهم وقصَّ عليه أقوالاً من كلام المسيح عليه السلام مثل قوله : من ضربك على خدك الأيمن فدر له الخدَّ الأيسر وأشباه ذلك فقيل إنه خفف عنهم وعمر لهم جامعاً على ما قيل .
وطلب إلى مصر أيام ركن الدين بيبرس الجاشنكير وعقد له مجلس في مقالة قال بها فطال الأمر وحكموا بحبسه فحبس بالإسكندرية ثم إن الملك الناصر لما جاء من الكرك أخرجه فيما أظن . ولم يزل العوام بمصر يعظمونه إلى أن أخذ في القول على السيدة نفيسة فأعرضوا عنه . ورأيته مراتٍ بمدرسة القصاعين وبالحنبلية جوَّا باب الفراديس وكان إذا تكلم أغمض عينيه وازدحمت العبارة على لسانه فرأيت العجب العجيب والحبر الذي ما له مشاكل فيء فنونه ولا ضريب والعالم الذي أخذ من كل شيء بنصيب سهمه للأغراض مصيب والمناظر الذي إذا جال في حومة الجدال رمي الخصوم من مباحثه باليوم العصيب : .
وعاينت بدراً لا يرى البدر مثله ... وخاطبت بحراً لا يرى العبر عائمه