ولد أبو زيد البلخي بقرية تدعى شامستيان وكان يعلم بها الصبيان فيما قيل وكان يميل إليها ويحبها ولذلك لما حسنت حاله اعتقد بها ضيعته ووكل بها همته وكانت تلك الضياع باقية بأيدي أحفاده وأقاربه إلى أن خربت بلخ . وقيل إن الأمير أحمد بن سهل بن هاشم كان ببلخ وعنده أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي وأبو زيد في ليلة من الليالي وفي يد الأمير عقد لآلئ نفيسة تتلألأ ويتوهج نورها قد حملت إليه من بلاد الهند حين افتتحت فأفرد الأمير منها عشر حبات وناولها أبا القاسم وأفرد عشراً وناولها أبا زيد وقال : هذه اللآلئ في غاية النفاسة فأحببت أن أشرككما فيها ولا أستبد بها فشكرا له ذلك ثم إن أبا القاسم وضع لآلئه بين يدي أبي زيد وقال : إن أبا زيد مهتم بشأنها فأردت أن أصرف ما برني به الأمير إليه فقال الأمير : نعم ما فعلت ورمى بالعشرة الباقية إلى أبي زيد وقال : خذها فلست في الفتوة بأقل حظاً ولا أوكس سهماً من أبي القاسم فلا تغبنن عنها فإنها ابتيعت للخزانة بثلاثين ألف درهم فباعها بثمن جليل وصرفه في ثمن الضيعة التي اشتراها . وكان أبو زيد ربعة نحيفاً مصفاراً أسمر جاحظ العين فيها تأخر وميل وبوجهه آثار جدري وهو صموت سكيت ذو وقار وهيبة . دخل العراق وأخذ عن العلماء وطوف البلدان وتتلمذ لأبي يوسف يعقوب الكندي وحصل من عنده علوماً جنة وتعمق في الفلسفة وهجم على أسرار التنجيم والهيئة وبرز في علم الطب وبحث عن أصول الدين أتم بحث وأبعد استقصاء . ولقد جرى ذكره في مجلس الإمام أبي بكر أحمد بن محمد بن العباس البزار وكان الإمام ببلخ والمفتي بها فأثنى عليه خيراً وقال : إنه كان قويم المذهب حسن الاعتقاد لم يعرف بشيء في ديانته كما ينسب إليه من نسب إلى علم الفلسفة وكل من حضر من الأفاضل أثنى عليه ونسبه إلى الاستقامة والاستواء وإنه لم يعثر له مع ما له من المصنفات الجمة على كلمة تدر على قدح عقيدته . ونمن حسن عقيدته أنه كان لا يثبت من علم النجوم الأحكام بل كان يثبت ما جرى عليه الحسبان . حكي عنه أنه قدمت المائدة وأبو زيد يصلي وكان حسن الصلاة فطول فيها وكان أبو بكر البكري فاضلاً خليعاً لا يبالي ما قال ويحتمل منه ذلك لعلو سنه فضجر البكري من طول صلاة أبي زيد فالتفت إلى أبي محمد الخجندي وقال له : يا أبا محمد ريح الإمامة بعد في رأس أبي زيد فخفف أبو زيد الصلاة وضحك وكان أبو زيد في أول الأمر قد خرج إلى العراق في طلب الإمام لأنه كان أولاً يرى إلى الإمامية . ولما ورد أحمد ابن سهل بن هاشم المروزي إلى بلخ واستولى تخومها راود أبا زيد على أن يستوزره فأبى عليه فاتخذ أبا القاسم الكعبي وزيراً وأبا زيد كاتباً ورزق أبي القاسم ألف درهم ورقاً ورزق أبي زيد خمس مائة درهم وكان أبو القاسم يأمر الخازن بزيادة مائة درهم لأبي زيد من رزقه فيتناول أبو زيد ست مائة درهم وأبو القاسم تسع مائة درهم ويأخذ لنفسه مكسرة ويأمر لأبي زيد بالوضح الصحاح . وحكي أبو محمد الحسن بن محمد الوزيري وكان لقي أبا زيد وتتلمذ له قال : كان أبو زيد ضابطاً لنفسه قليل البديهة نزر الشعر واسع الكلام في الرسائل والتأليفات إذا أخذ في الكلام أمطر اللآلئ المنثورة وكان قليل المناظرة حسن العبارة وكان يتنزه عما يقال في القرآن إلا الظاهر المستفيض من التفسير والتأويل والمشكل من الأقاويل ويتحرج أيضاً عن تفضيل بعض الصحابة على بعض وعن مفاخرة العرب والعجم ويقول : ليس في هذه المناظرات ما يجدي طائلاً ولا يتضمن حاصلاً لأن الله تعالى يقول في القرآن : " إنا أنزلناه قرآناً عربياً غير ذي عوج " الآية وأما الصحابة فقوله A : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وكذلك العربي والشعوبي فإن الله تعالى قال : " فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون " وقال : " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " . وقال بعض أهل الأدب : اتفق أهل صناعة الكلام على أن متكلمي العالم ثلاثة : الجاحظ وعلي بن عبيدة اللطفي وأبو زيد البلخي فمنهم من يزيد لفظه على معناه وهو الجاحظ ومنه من يزيد معناه على لفظه وهو علي بن عبيدة ومنهم من توافق لفظه ومعناه وهو أبو زيد . ولما دخل أبو زيد على أحمد بن سهل المروزي أول دخوله سأله عن اسمه ؟ فقال : أبو زيد فعجب أحمد بن سهل من ذلك وعد ذلك سقطة منه فلما خرج ترك خاتمه في مجلسه