واجتاز البحتري مرَّة بالموصل أو برأس عين فمرض بها مرضاً شديداً وكان الطبيب يختلف إليه ويداويه فوصف له يوماً مزَوَّرةً ولم يكن عنده من يخدمه سوى غلامُه وكان بعض رؤساء البلد عنده قد جاء يعوده فقال الرئيس : ليس هذا الغلام يحسن طبخها وعندي طباخ من نَعتِه من صِفَتِه فترك الغلام عملَها اعتماداً على ذلك الرئيس وقعد البحتري ينتظرها واشتغل الرئيس عنها ونسِيَ أمرها فلما أبطأت عليه وفات وقت وصولها إليه ولم تجيء كتب البحتري إلى ذلك الرئيس : .
وجدتُ وعدَكَ زُوراً في مُزَوَّرةٍ ... حلفتَ مجتهداً إحسانَ طاهيها .
فلا شفَى اللهُ مَن يرجو الشفاءَ بها ... ولا علَت كفُّ مُلقٍ كفَّه فيها .
فاحبِس رسولَك عنّي أن تجِيءَ بها ... فقد حبستُ رَسولي عن تقاضيها .
حدّث أبو العَنبَس الصَّيمري قال : كنتُ عند المتوكل والبحتري يُنشِده : .
عن أيِّ ثَغرٍ تبتسِم ... وبأيّ طَرفٍ تحتكِم .
حتى بلغ إلى قوله : .
قل للخليفة جعفر ال ... متوكّل بن المعتَصِم .
والمجتدى ابن المجتدى ... والمنعِم بن المنتَقِم .
أسلم لدينِ محمدٍ ... فإذا سَلِمتَ فقد سَلِم .
قال : وكان البحتري من أبغض الناس إنشاداً يتشدّق ويتزاور في مشيته مرَّةً جانباً ومرّة القَهقرى ويهُزّ رأسَه ومنكبَيه ويُشير بكُمه ويقف عند كلّ بيتٍ ويقول : أحسنتُ واللهِ ثم يُقبِل على المستعين ويقول : ما لكم لا تقولون لي أحسنتَ ؟ هذا والله ما لا يُحسِن أحدٌ أن يقول مثلَه فضجِر المتوكل وقال : أما تسمع يا صَيمري ما يقول ؟ فقلت : بلى يا سَيّدي فمُر بما أحببتَ فقال : بحياتي اهجُه على هذا الرَّوِي فقلت : تأمُر ابنَ حمدون أن يكتب ما أقول : فدعا بدواةٍ وقرطاسٍ وحضرني على البديهة أن قلتُ : .
أدخلتَ رأسَك في الحرم ... وعلمتَ أنك تنهزِم .
يا بحتريُّ حَذارِ ويح ... ك مِن قُضا قِضةٍ ضُغُم .
فلقد أَسَلتَ بوادِيي ... كَ من الهِجا سَيلَ العَرِم .
والله حِلفةَ صادقٍ ... وبقبرِ أحمدَ والحرَم .
وبحقّ جعفرٍ الإما ... مِ ابنِ الإمام المعتَصِم .
لأصيِّرنَّك شُهرةً ... بين المَسيل إلى العَلَم .
فبأيّ عِرضٍ تعتصِم ... وبِهَتكِهِ جَفّ القَلَم ؟ .
حيَّ الطلول بذي سلَم ... حيث الأراكةُ والخِيَم .
يا ابنَ الثقيلةِ والثقي ... لِ على قلوب ذَوِي النِّعَم .
وعلى الصغير مع الكبي ... ر مع المَوالي والحَشَم .
في أي سَلح ترتطِم ... وبأيّ كفٍّ تلتقِم .
إذ رَحلُ أُختك للعَجَم ... وفراشُ أمك للظُّلَم .
وبنات دارك حانةٌ ... في بيته يُؤتَى الحَكَم .
قال : فخرج مُغضباً وأنا أصيح به : .
أدخلت رأسك في الحرم ... وعلمتَ أنك تنهَزِم .
والمتوكل يضحك ويصفِّق حتى غاب عنه وأمر لي بالصلة التي كانت أعِدَّت له ولما قُتِل المتوكل قال أبو العَنبَس : .
يا وَحشَةَ الدنيا على جعفرٍ ... على الهمام الملك الأزهر .
على قتيل من بني هاشمٍ ... بين سرير الملك والمِنبَر .
واللهِ رَبُّ البيت والمَشعَر ... والله أن لو قُتِل البحتري .
لثار بالشام له ثائرٌ ... في ألف نَغلٍ من بني عَضجَرِ .
يقدمُهم كلُّ أخي ذِلّةٍ ... على حِمارٍ دابرٍ أعور .
فشاعت حتى وصلت إلى البحتري فضحك وقال : هذا الأحمق يرى أني أُجيبهُ عن مثل هذا ولو عاش امرؤ القيس وقال هذا لم أجبه . وقال البحتري قصيدةً يرثي بها العلاء بنَ صاعد من جملتها : .
ولم أر كالدنيا حليلة وامق ... محبٍّ متى تحسُن لعينيه تَطلُقِ .
تراها عياناً وهي صنعةُ واحدٍ ... وتحسِبُها صُنعَي لطيفٍ وأخرَق