وقد تقدم هذان البيتان في ترجمة الشيخ صدر الدين محمد بن عمر بن الكيل وقال جعفر بن الربيع : أقمتُ على أبي حنيفة خمس سنين فما رأيت أطول صَمتاً منه فإذا سئل عن الفقه تفتّح وسال كالوادي وسمعت له دَويّاً وجَهارةً بالكلام وكان إماماً في القياس وقال علي بن عاصم : دخلتُ على أبي حنيفة وعنده حَجّام يأخذ من شَعره فقلت للحجام تتَبَّع مواضع البياض لا تَزِد قال : ولمَ لا ؟ قال : لأنه يكثر قال : فتتبع مواضع السواد لعله يكثر فحكيتُ لشريكٍ هذه الحكاية فضحك وقال : لو ترك أبو حنيفة قياسَه لتركه مع الحجام وقال ابن المبارك : رأيت أبا حنيفة في طريق مكّة وشُوِيَ له فصيلٌ سمينٌ فاشتَهوا أن يأكلوه بخَل فلم يجدوا شيئاً يصبون فيه الخلّ فتحيروا فرأيته وقد حفر في الرمل حُفرةً وبسَطَ عليها السُفرة وسكب الخل في ذلك الموضع فأكلوا الشِّواء بالخل فقالوا له تحس كل شيء فقال : عليكم بالشكر فإن هذا شيء أُلهِمتُهُ لكم فضلاً من الله عليكم ودعاه المنصور يوماً فقال الربيع : يا أمير المؤمنين هذا أبو حنيفة يخالف جدَّك كان عبد الله بن عباس يقول : إذا حلف على اليمين ثم استثنى بعد ذلك بيوم أو يومين جاز الاستثناء وقال أبو حنيفة : لا يجوز الاستثناء إلا متّصلاً باليمين فقال أبو حنيفة : يا أمير المؤمنين إنّ الرببع يزعم أن ليس لك في رِقاب جُندِك بَيعة قال : وكيف ؟ قال : يحلفون لك ثم يرجِعون إلى منازلهم فيستثنون فتبطُل أيمانهم فضحك المنصور وقال : يا ربيع لا تعرّض لأبي حنيفة فلما خرج أبو حنيفة قال له الربيع : أردتَ أن تُشِيطَ بدمي قال : لا ولكنك أردتَ أن تشيطَ بدمي فخلصتُك وخلص نفسي . وان أبو العباس الطوسي سيءَ الرأى في أبي حنيفة وكان أبو حنيفة يعرف ذلك فدخل يوماً على المنصور وكثر الناس فقال الطوسي : اليوم أقتل أبا حنيفة فأقبل عليه وقال : يا أبا حنيفة إن أميرَ المؤمنين يدعو الرجل فيأمره بضرب عُنق الرجل لا يدري ما هو أفَيَسَعُه أن يضرب عنقَه فقال : يا أبا العباس أمير المؤمنين يأمر بالحق أو بالباطل ؟ قال : بالحقّ قال : أَنفِذ الحق حيث كان ولا تسأل عنه ثم قال أبو حنيفة لمن كان قريباً : إن هذا أراد أن يُوثِقَني فرَبَطته وقال يزيد بن الكميت : كان أبو حنيفة شديد الخوف من الله تعالى فقرأ بنا علي بن الحسن ليلة في العشاء الآخرة " إذا زلزلت الأرض زلزالها " وأبو حنيفة خَلَفه فلما قضى الصلاة وخرج الناس نظرتُ إليه وهو جالس يتفكّر ويتنفس فقلت : أقوم لا يشتغل قلبه بي فلما خرجتُ تركت القنديل ولم يكن فيه إلا زيتٌ قليل فجئت وقد طلع الفجر وهو قائم يصلي وقد أخذ بلحية نفسه وهو يقول : يا من يجزي بمثقال ذَرةٍ خيراً وخيراً ويا من يجزي بمثقال ذَرة شرّاً شرّاً أجِرِ النعمان عبدك من النار وما يقرب منها من سوءٍ وأَدخِله في سعَة رحمتك قال : فأدّنتُ والقنديل يزهِر وهو قائم . فلمّا دخلت قال : تريد أن تدخل القنديل ؟ قلت : قد أذّنتُ لصلاة الغداة قال : اكتمُ عليّ ما رأيتَ وركع ركعتين وجلس حتى أقيمت الصلاة وصلى معنا الغداة على وضوء أوّل الليل وقال إسمعيل بن حماد بن أبي حنيفة عن أبيه قال : لما مات أبي سألنا الحسن بن عمارة أن يتولى غُسله ففعل فلما غسله قال : رحمك الله وغفر لك ! .
لم تفطر منذ ثلاثين سنة ولم تتوسّد يمينك في الليل منذ أربعين سنة وقد أَتعبتَ من بعدك وفضحتَ القراءَ . وقال عبد الله بن رجاء : كان لأبي حنيفةَ جارٌ بالكوفة إسكافي يعمل نهاره أجمعَ حتى إذا أجنّه الليل رجع إلى منزله . وقد حمل لحماً فيطبخه أو سمكة فيشويها ثم لم يزل يشرب حتى إذا دبّ فيه غّرَّد بصوتٍ وهو يقول : .
أضاعوني وأيّ فتىً أضاعوا ... ليوم كريهة وسدادِ ثغرِ