قلت : كذا وجدتُه ولعله قال : حبباً يدور على سُلافٍ أبيضِ والله أعلمُ ومنه : .
وكُمثَرَى حَبوتُ به النَّدامَى ... يُزيل تقطُّب الوجه العَبوس .
كأكوابٍ صغارٍ من زُجاجٍ ... وقد مُلِئَت بصُفرة خَندَريس .
ومن ترسله : كتب الخادم هذا الكتاب ليلاً وخاطِره يُغنيه عن الاستضاءة بمصباح ويكاد يمثَّل له في سواد الظلمة بياض الصباح . غير أنه كان بين يديه شمعة وُضعت للعادة المعتادة لا للحاجة المُرادة . وسنذكر من أوصاف صورتها ما للبيان فيه سبحٌ طويل في ذكره ولربما كان هناك معنى غريب فيُنبَّه على سره وذاك أن لها قدّاً ألفي القوام مُشبهاً في نحوله واصفراره حال المستهام وهي والقلم سِيان في أنهما إذا قُطع رأسهما صَحَّا بعد السَّقام . ومن عجيب شأنهما أنّ روحها تحيا بجسمها وبالأرواح تكون حياة الأجسام . وقد وصفها قوم بأن لها خُلقاً كريماً في رعاية عهود الإخوان وأن بكاءها ليس إلا لمفارقة أخيها الذي خرجت معه من بطن ونشأت معه من مكان وهذا الوصف من ألطف أوصافها وهو مما يهيج الألاف شوقاً إلى ألافها وكانت الريح تتلعّب بلهبها لدى الخادم فتشكِّله أشكالاً فتارة تُبرِزه نجماً وتارة تُبرِزه هلالاً . ولربما مثلته طوراً بالجلَّنارة في تضاعف أوراقها وطوراً بالأنامل في اجتماعها وافتراقها وآونةً تأخذه فتلفه على رأسها شبيهاً بالقناع ثم ترفعه عنها حتى يكاد يزايلها بذلك الارتفاع . فلم يزل الخادم ينظر منها إلى هذه الصُّور ويستملي من بدائعها بدائع هذه الغُرَر وأحسنُ الحديث ما وافقَت فيه صورة العيان معنى الخبر . وكما كانت الريح تتلعب بالشمعة فتنقلها من مثال إلى مثال فكذلك الشوق يتلعب بالقلب فينقله من حال إلى حال . غير أن حرَّ هذه ليس كحر هذا في الاستعار والنار التي تتطلع عليها الأفئدة أشد لفحاً من هذه النار .
وقال أيضاً يصف الشمعة من جملة كتاب : ولما استنطقتُ الآن قلمي كان بين يديَّ شمعة تعم مجلسي بالإيناس وتُغنيني بوحدتها عن كثرة الجلاّس ويخبر لسان حالها أنها أحمد عاقبةً من مجالسة الناس . فلا الاسرار عندها ولا السقطات لديها بمحفوظة وكانت الريح تتلعب بلهبها وتختلف على شُعبه بشعبها . فطوراً تقيمه فيصير أنملة وطوراً تميله فيصير سلسلة . وتارة تُجوفه فيتمثل مُدهنة وتارة تجعله ذا ورقات فيتمثل سَوسَنة . وآونة تَنشره فينبسط منديلا وآونة تلفّه على رأسها فيستدير إكليلاً . ولقد تأملتُها فوجدتُ نسبتها إلى العُنصر العسلي وقدَّها قد العّسال وبها يضرب المثل للحكيم غير أنّ لسانها لسان الجهّال . ومذهبها هو مذهب الهُنود في إحراق نفسها بالنار وهي شبيهة بالعاشق في انهمال الدمع واستمرار السهر وشدة الصُّفار . وكل هذه الأحوال تجدّدت لها بعد فراق أخيها ودارها والموتُ في فراق الأخ والدار . وقد سألتُها أن تُملي عليّ دخانها من أشواقها فقالت إن تعليم الخمرة لا يهدي للعوان والنار التي صُعداء الأنفاس أشدّ من النار ذات الدخان . وأين اللهَبُ الذي تطفِئه الشَّفة بنفخها من اللهَب الذي لا تدنو منه شفتان . وكتب إلى الشيخ تاج الدين الكندي : عمّر الله أيام المجلس ولا أخلى جَنابه من أهل ومرحب ووهبه من ألطافه الخفية ما لا يوهب وخصه من نخائل القلوب بالشأو الأبعد والودّ الأقرب وبنى له من المعالي مجداً يَنطُق عنه بالثناء المعرَب وسيّر ذكرَه على صهوة الليل الأدهم وكَفَلِ الصباح الأشهب وأيأس الحساد من لحاقه حتى لا يرجوه راجٍ إلا قيل هذا أطمع من أشعب . وردت المكاتبة الكريمة التي حملت نشرَ الأحبة في سطرها وغارت من رسل الصَّبا أن تحمله على ظَهرها وقالت ليس ما يَسحَب على الأرض إزاراً ويحمل شِيحاً وعَراراً بأهلٍ أن يُودع ألطاف الودائع ويفضَى إليه بأسرار الأضالع . ولما وردت على الخادم وجدت عهده ما عرفته ووده ما كشفته خليفة عُذريّ الهوَى ترى الموت في صورة النوى وهي مَروعةٌ بين أهل العُلى ولا أهل اللِّوى . والوجد بالمجد غير الوجد بالغَزَلَ .
ابن الشُقيِشِقة