والتفت قراسنقر إلي وقال : هذا كله منك وما كان هذا الفداوي إلا عندك مخبوءاً وأخذ في هذا وأمثاله ونهض إلى السلطان بوسعيد وشكا إليه ودخلت أنا وجوبان خلفه فقال للسلطان بوعيد : يا خوند إلى متى هذا بالله ؟ اقتلني حتى أستريح . والله زاد الأمر وطال وأنا فقد التجأت إليكم ورميت نفسي عليكم واستجرت بكم والعصفور يستند إلى غصن شوك يقيه من الحر والبرد .
فانزعج السلطان بوسعيد لهذا الكلام وقال لي بغيظ : إلى متى هذا وأنت عندنا والفداوية تخبأهم عندك لهذا . فقلت : وحياة راس القان ما كان عندي وإنما حضر أمس مع فلان ولكن هذا أخوك السلطان الملك الناصر قد قال غير مرة : إن هذا مملوكي ومملوك أخي ومملوك أبي وقد قتل أخي وما ارجع عن ثأر أخي ولو أنفقت خزاين مصر على قتل هذا وهذا دخل إليكم قبل الصبح بيننا وهو مستثنى من الصلح فعند ذك قال جوبان : هذا حقه نحن ما ندخل بينه وبين مملوكه قاتل أخيه وخرج فانفصلت القضية .
وحكى علاء الدين علي بن العديل القاصد قال : توجهنا مرة ومعنا أربعة من الفداوية لقراسنقر فلما قاربنا مراغة وبقي بيننا وبينها يوم - أو قال يومان - ونحن في قفل تجار والفداوية مستورون : أحدهم جمال والآخر عكام والآخر مشاعلي والآخر رفيق فما نشعر إلا والألجية قد وردوا علينا فتقدموا إلى أولئك الربعة وأمسكوهم واحدا ًواحداً من غير أن يتعرضوا إلى أحد غيرهم في القفل وتوجهوا بهم إلى قراسنقر فقتلهم وكذلك فعل بغيرهم وغيرهم .
قلت : الظاهر أنه كان له عيون تطالعه بالأخبار وتعرفه المتجددات من دمشق ومن مصر فنه كان في هذه البلاد نائباً وجهز جماعة من الفداوية ويعرف قواعد هذه البلاد وما هي عليه وما كان ممن بغفل عن أمر الفداوية وما كان يؤتى إلا منهم .
قال القاضي شهاب الدين : ومات في عزه وجاهه وسعادته معظماً بيت المغل كأنما عمره رب فيهم .
ويقال أنه ملك ثمانمائة مملوك وعندي أنه لم يبلغ هذه العدة وإنما كان عنده مماليك كثيرة جداً .
وحصل أموالاً جمة ويعطي الأموال الجمة لمماليكه وجماعته من الخيول المسومة والسروج الزرخونا والحوايص الذهب والكلاوت والطرز الزركش والأطلس والسمور وغير ذلك من كل مال فاخر .
وتأمر في حياته بنوه : الأمير ناصر الدين محمد تقدمة ألف والأمير علاء الدين علي طبلخاناه وفرج بعشرة وتأمر له عدة مماليك مثل بيخان ومغلطاي وبلبان جهاركس بطبلخاناه بهادر وعبدون بعشرات .
قال شهاب الدين ابن الضيعة النقيب : لما جاءت العساكر الحلبية مع قراسنقر إلى دمشق سنة تسع وسبعمائة كان ثلث الجيش يحمل رنك قراسنقر لأنهم أولاده وأتباعه ومماليكه وأتباعهم .
وكان في حلب والأمراء الحكام في مصر مثل سلار والجاشنكير وغيرهما يخافونه ويدارونه ولا يخالفون أمره .
وكان مع هذه العظمة الكبيرة والسؤدد الزايد يداري بماله ويصانع حاشية السلطتان حتى الكتاب والغلمان فيقال له في ذلك فيقول : ما يعرف الإنسان كيف تدور الدوائر وواحد من هؤلاء يجيء له وقت تفلح منه كلمة تعمر ألف بيت وتخرب ألف بيت .
وكان يرى أخذ الأموال ولا يرى إهراق الدماء فحقن الله دمه وأهذب ماله .
قال القاضي شهاب الدين : حكى لي الشيخ أبو العباس أحمد بن عمر الأنصاري الصوفي قال : كان ابن عبود إذا عمل المولد الشريف النبوي حضر إليه الأمراء وسائر الناس فعمل المولد مرة في سنة من السنين فحضره قراسنقر وكان في المولد رجل صالح مغربي يعرف بالمراكشي فلما مدت الأسمطة قام قراسنقر وقلع سيفه وتشمر ومد السماط المختص بالفقراء وقدم بيده الطعام وشرع يقطع المشوي لهم ولا يدع أحداً يتولى خدمتهم سواه فقال المراكشي : من هذا ؟ قالوا له : هذا الأمير شمس الدين قراسنقر أمير كبير صفته نعته ومكانته من الدولة كبيرة فقال : لا إله إلا الله يعيش سعيداً وتنزل به في آخر عمره كاينة ويخلص منها ويخلص بسببه غيره ويسلم وما يموت إلا على فراشه .
وكان لا يأخذ من أحد شيئاً إلا ويقضي شغله ويفيده قدر ما أخذ منه مرات مضاعفة وأين مثله أو من يقارب فعله ؟