علي بن محمد بن سليم الصاحب الوزير الكبير بهاء الدين بن حنَّا المصري أحد رجال الدهر حزماً وعزماً ورأياً ودهاءً وخبرةً وتصرّفاً . استوزره الظاهر وفوض إليه الأمور ولم يكن على يده يد . وقام بأعباء المملكة وأخمل خلقاً ممن ناوأه . وكان واسع الصدر عفيفاً نزهاً لا يقبل لأحد شيئاً إلاَّ أن يكون من الصلحاء والفقراء ؛ وكان قائلاً بهم : يُحسن إليهم ويحترمهم ويدرّ عليهم الصلات . وقد قصده غير واحد بالأَذى فلم يجدوا ما يتعلقون به عليه . ووزر بعد الظاهر لابنه سعيد وزادت رتبته . وله مدرسة وبرٌّ وأوقاف . ابتُلي بفقد ولديه فخر الدين ومحيي الدين فصبر وتجلَّد . وعاش أربعاً وسبعين سنة وتوفي سنة سبع وسبعين وست مائة وشيَّع الخلق جنازته .
وحُكي أنَّ من جملة سعادته أَوَّلَ وزارته أنه نزل إلى دار الوزير الفائزي ليتبع ودائعه ويأخذ ذخائره فوجد ورقةً فيها أسماء من أودع عنده أمواله ؛ فعرف الحاضرون كلَّ من سمِّي في الورقة وطُلب وأُخذ منه المال . وكان في الأسماء مكتوب : الشيخ ركن الدين أربعون ألف دينار ؛ فلم يعرف الحاضرون من هو هذا الشيخ الذي يودع أربعين ألف دينار ؛ ففكر الصاحب بهاء الدين زماناً وقال : احفروا هذا الركن وأشار إلى ركن في الدار فحفروه فوجدوا المال . وكان ينتبه قبل الآذان للصبح ويشرب قدحاً فيه ثماني أواقٍ شراباً بالمصري ويأكل طيري دجاجٍ مصلوقةً . وإذا أذَّن صلَّى الصبح وركب إلى القلعة وأقام طول النهار لا يأكل شيئاً في المباشرة ويُظنّ أنَّه صائمٌ وهو في الحقيقة صائمٌ لا يحتاج إلى غذاء مع ذلك الشراب والدجاج .
وكان الملك الظاهر يعظِّمه ويدعوه يا أبي . وحُكي أنَّ الأمراء الكبراء اشتوروا فيما بينهم أنَّهم يخاطبون السلطان الملك الظاهر في عزل الصاحب بهاء الدين . ولم تزل العيون للسلطان على عامّة الناس وخاصّتهم يطالعونه بالأَخبار فاطّلع بعض العيون على ذلك . وكان قد قرَّروا أنَّ ابن بركة خان هو الذي يفتح الباب في ذلك والأُمراء يراسلونه . فلمَّا بلغ السلطان ذلك وكانوا قد عزموا على مخاطبته في بكرة ذلك النهار في الخدمة فلمَّا جاءوا ثاني يوم ادَّعى السلطان أنَّه أصبح به مَغْسٌ عجز معه عن الجلوس للخدمة فجلس الأُمراء إلى طالع نهار ثمَّ خرج إليهم جَمدار وقال : بسم الله ادخلوا ؛ فدخلوا يعودون السلطان وهو متقلق فجلسوا عنده ساعة فجاءه خادم وقال : يا خَوَند كان مولانا السلطان قد دفع إليَّ في وقتٍ قَعْبَة صيني فيها حلاوة مسير يقطين وقال لي : دعها عندك فإن هذه أهداها لي رجل صالح وهي تنفع من الأمراض . فقال السلطان : نعم ذكرت أحضِرها فأحضَرها فأكل منها شيئاً قليلاً وادَّعى أنه سكّن ما يجده من الألم . ففرح الأُمراء وسرُّوا بذلك فقال : يا أُمراء أتعرفون من هو الذي أهدى إليَّ هذه الحلوى من الصلحاء ؟ فقالوا : لا قال : هذا أبي الصاحب بهاء الدين ؛ فسكتوا . ولمَّا خرجوا قال بعضهم لبعض : إِذا كان يعتقد فيه أنَّ طعامه يُشفي من المرض أيّ شيءٍ تقولون فيه ؟ كتب إليه القاضي محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر : .
زادك الله تعالى ... أيُّها العبدُ جلالا .
حيث قد صرتَ سِنيناً ... لِعَلِيٍّ تتوالى .
من يَزُر في العام يوماً ... حقُّه أن يتغالى .
وكتب إليه السِّراج الورّاق ومن خطّه نقلت : .
لا تَلُمْنا فأيُّ بابٍ سوى با ... بك تأوي إلى حِماهُ الوفودِ .
لم تكد تَقْصرُ المسائل منّا ... ولدينا عطاؤكَ الممدودُ .
كلّنا مؤمن يحبُّ عليًّا ... ونُوالي نداهُ وهو يزيدُ .
وقال يمدحه وقد خلع عليه خلعة زرقاء وعوفي من مرضه : .
لبستَ ثوبين تشريفاً وعافيةً ... لم تُبلِ حسنَهما يوماً يدُ الغَيرِ .
أرضيتَ ربَّكَ والسلطانَ فاصطفَيا ... ما قد لبست فجُرَّ الذيلَ وافتخرِ .
من صحّة طالما كنا نؤمِّلها ... فالله يعطيك منها أطولَ العُمُر .
وخلعةٍ إن بدتْ لونَ السماءِ لنا ... فقد بدا منك ما يُزهى على القمرِ .
قالت سعادةُ مولانا لصابغها : ... دعها سماويّةً تمضي على قَدَرِ