كراس . وحفظت مشكل القرآن له وغريب القرآن له في مدة يسيرة وحفظت الإيضاح لأبي علي الفارسي في شهور وأما التكملة ففي أيام يسيرة كل يوم كراس . وطالعت الكتب المبسوطة والمختصرات . وواظبت على مقتضب المبرد وكتاب ابن درستويه . وفي أثناء ذلك لا أغفل عن سماع الحديث والفقه على شيخنا ابن فضلان وأكببت على المقتضب فأتممته وبعد ذلك تجردت لكتاب سيبويه وشرحه للسيرافي وقرأت على أبي عبيدة الكرخي كتباً كثيرة منها : الأصول لابن السراج وقرأت عليه الفرائض والعروض للخطيب التبريزي . وأما ابن الخشاب فسمعت بقراءته معاني الزجاج على الكاتبة شهدة وسمعت منه الحديث المسلسل وهو : الراحمون يرحمهم الرحمن . وأكببت على كتب الغزالي المقاصد والمعيار والميزان ومحك النظر . ثم انتقلت إلى كتب ابن سينا صغارها وكبارها وحفظت كتاب النجاة وكتبت الشفاء وبحثت فيه وحصلت كثيراً من كتب جابر بن حيان الصوفي وابن وحشية . وباشرت على الصنعة الباطلة وتجارب الضلال الفارغة وأقوى من أضلني ابن سينا بكتابه في الصنعة الذي تمم به فلسفته التي لا تزداد بالتمام إلا نقصاً . ثم دخلت الموصل ووجدت الكمال ابن يونس جيداً في الرياضيات والفقه متصرفاً في باقي أجزاء الحكمة واجتمع إلي جماعة كبيرة وعرضت علي مناصب فاخترت منها مدرسة ابن مهاجر المعلقة ودار الحديث التي تحتها وأقمت بالموصل سنة في اشتغال دائم ومتواصل وسمعت الناس يرهجون في حديث السهروردي المتفلسف ويعتقدون أنه فاق الأولين والآخرين وأن تصانيفه فوق تصانيف القدماء فهممت لقصده وأدركني التوفيق وطلبت من ابن يونس شيئاً من تصانيفه فوقفت على التلويحات واللمحة والمعارج فصادفت فيها ما يدل على جهل أهل الزمان ووجدت لي تعاليق كثيرة لا أرتضيها هي خير من كلام هذا الأول ثم دخلت دمشق واجتمعت بالكندي البغدادي النحوي وجرت بيننا مباحثات وكان شيخاً ذكياً مثرياً له جانب من السلطان لكنه معجب بنفسه مؤذ لجليسه وأظهرني الله عليه في مباحث ثم أهملت جانبه ؛ وكان يتأذى بإهمالي . وعملت بدمشق تصانيف جمة ثم توجهت إلى صلاح الدين بظاهر عكا واجتمعت ببهاء الدين ابن شداد قاضي العسكر يومئذ فانبسط إلي وأقبل علي وقال : تجتمع بعماد الدين الكاتب فوجدته يكتب كتاباً إلى الديوان العزيز بقلم الثلث من غير مسودة وذاكرني في مسائل من علم الكلام وقال : قوموا بنا إلى القاضي الفاضل ! .
فدخلنا عليه فرأيت شيخاً ضئيلاً كله رأس وقلب وهو يكتب ويملي على اثنين ووجهه وشفتاه تلعب ألوان الحركات لقوة حرصه على إخراج الكلام وكان يكتب بجملة أعضائه ؛ وسألني عن قوله تعالى : " حتى إذا جاءها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها " أين جواب إذا وأين جواب لو في قوله تعالى : " ولو أن قرآناً سيرت به الجبال " وعن مسائل كثيرة ومع هذا فلا يقطع الكتابة والإملاء وقال لي : ترجع إلى دمشق وتجرى عليك الجرايات فقلت : أريد مصر ! .
فكتب لي ورقة صغيرة إلى وكيله لها ؛ فلما وصلت القاهرة جاءني ابن سناء الملك وكيله فأنزلني داراً قد زيحت عللها وجاءني بدنانير وغلة ثم مضى إلى أرباب الدولة وقال : هذا ضيف القاضي الفاضل ! .
فدرت الهدايا والصلات من كل جانب وكان في كل عشرة أيام ونحوها تصل تذكرة الفاضل في مهمات الدولة وفيها فضل توكيد الوصية بي فأقمت بمسجد الحاجب لؤلؤ أقرئ الناس ؛ وكان قصدي ياسمين السيميائي والرئيس موسى بن ميمون اليهودي وأبا القاسم الشراعي . أما ياسمين فوجدته محالياً كذاباً . وموسى اليهودي وجدته فاضلاً لا في الغاية قد غلب عليه حب الرياسة وخدمة أرباب الدنيا . وأما أبو القاسم فوجدته كما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين سيرته سيرة الحكماء العقلاء ووجدته قيماً بكتب القدماء وإذا تفاوضنا في الحديث أغلبه بقوة الجدل . وفضل اللسن ويغلبني بقوة الحجة وظهور المحجة . ثم عدت إلى القدس وأخذت من كتب القدماء ما أمكنني وكتب لي السلطان صلاح الدين علة ديوان الجامع كل شهر بثلاثين ديناراً وأطلق لي أولاده رواتب ورجعت إلى دمشق وأكببت على الاشتغال وإقراء الناس بالجامع وكلما أمعنت في كتب القدماء ازددت فيها رغبة وفي كتب ابن سينا زهادة واطلعت على بطلان الكيمياء وعرفت حقيقة الحال في وضعها ومن وضعها وما كان قصده في ذلك وخلصت من ضلالين عظيمين فإن أكثر الناس هلكوا