ومن كلام الفاضل في هذه المادة - أعني ما يقرأ : مقلوباً فلا يتغير - قوله : أبداً لا تدوم إلا مودة الأدباء . قلت : ولا يعلم أن كاتباً بلغ من الرتبة عند مخدومه ما بلغه الفاضل عند صلاح الدين حتى أنه كان يقول : ما فتحت البلاد بالعساكر إنما فتحتها بأقلام القاضي الفاضل . وعمل الخلفاء على أخذه منه واحتجوا بأنهم يطلبونه لأمور لا تقال إلا للقاضي الفاضل في ما يتعلق بالفتوحات فأذن له فقال له : السلام عليك هو آخر العهد بك ثم دافع عنه واعتذر بضعفه فعلموا عليه لما حج وأرادوا أخذه غصباً فتعذر ذلك ويقال إن الناصر الإمام لما توفي صلاح الدين كتب إلى الفاضل أو أرسل إليه يقول له : أي من كان في أولاد صلاح الدين يصلح للملك وله الأمر وحكى شيخ الشيوخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري قال : لما مرض السلطان صلاح الدين بحران مرضاً شديداً حتى حصل اليأس منه وبقي أياماً لا يأكل ولا يشرب فدخل عليه القاضي ضياء الدين الشهرزوري عائداً فبكى السلطان فقال له ضياء الدين : يا مولانا مثلك ما يسامح أنت ربيت بين سمر الرماح وبيض الصفاح وعرضت نفسك على الموت مراراً في عدة حروب وأنت الآن تفزع من الموت وأنت في هذا السن ؟ فقال : والله ما خطر لي هذا ببال ولكن فكرت الساعة في القاضي الفاضل كيف يكون إذا بلغته وفاتي فأشفقت عليه لعلمي به وما يجده من أجلي .
ورأيت من تمكن الفاضل عند السلطان فصلاً كتبه في معنى العادل أخي السلطان وكان العادل يكره الفاضل لأنه أخذ حلب منه وأعطاها للعزيز عثمان وبلغ الخادم أن المولى العادل أنكر توالي الإنعام بعد الإنعام وتتابع الإكرام بعد الإكرام وما علم أن آثار السيف طاحت وبقي أثر الأقلام وكم للخادم من موقف مشكور يعجز عنه السيوف المشهور والعلم المنشور والمولى العادل يمني نفسه فأدام الله أيام المولى ما دامت السموات والأرض والخادم إن تقدم المولى فهو أكبر مراده وإن كانت شقوة تطيل له البقاء فما يخرج الملك عن السادة الملوك من أولاده .
قلت : من هذا الكلام يعرف أين كان الفاضل في الرتبة عند صلاح الدين وما أفاد هذا الكلام . ومات السلطان واستولى العادل على البلاد وسل أولاد أخيه صلاح الدين واحداً بعد واحد وما نفعهم القاضي الفاضل .
ومن إدلال الفاضل على السلطان ما رأيته في مكاتبة عنه إلى السلطان وهو : أن العزيز عثمان ولده كان معه في تلك السفرة فذكره الفاضل وقال : الكامل .
مملوك مولانا ومملوك ابنه ... وأخيه وابن أخيه والجيران .
طي الكتاب إليه منه إجابة ... لسلام مولانا ابنه عثمان .
والله قد ذكر السلام وأنه ... يجزي بأحسن منه في القرآن .
وغريبة قد جئت فيها أولاً ... ومن اقتفاها كان بعدي الثاني .
فرسولي السطلان في إبلاغها ... والناس رسلهم إلى السلطان .
وترسله فلعله يبلغ المائة مجلد ونظمه فقد قال في جملة رسالة : إني من مدرجة ستين وما قاربها وهي المدة من تاريخها قدح هجرة وكري وعلو سعر شعري قد نظمت ما بين خمسين ألف بيت من الشعر بشهادة عيانها وحضور ديوانها . ومثل هذا العدد لا يعرف لقديم ولا محدث في مثل هذه المدة مثل قولي في صفة باذهنج شديد الحرور ما يناهز ألف بيت ومثل قولي في رجل طويل الآذان كأنهما في رأسه خفان أو قد عجل له منهما نعلان ما يقارب ألفي بيت ومثل قولي في رثاء الوطن الذي درجت من وكره وخرجت فلم أخرج عن ذكره ما يناهز عشرة آلاف بيت ومثل قولي في مدائح منصوصة وأهاجي مخصوصة ومثل قواف لم اسبق إلى ركوبها ولم يدر الزمان على مسامع أهله مثل كوبها