عبد الله بن هارون أمير المؤمنين أبو العباس المأمون بالله بن الرشيد ابن المهدي بن المنصور . ولد سنة سبعين ومائة . بايعوه أول سنة ثمان وتسعين ومائة وكان يكنى أبا العباس فلما استخلف اكتنى بأبي جعفر . وتوفي سنة ثمان عشرة ومائتين في يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلةً بقيت من رجب وكانت وفاته بالبدنون فكانت خلافته عشرين سنةً وستة أشهرٍ . قرأ العلم في صغره وسمع من هشيم وعباد بن العوام ويوسف بن عطية وأبي معاوية الضرير وطبقتهم وروى عنه ولده الفضل ويحيى بن أكثم وجعفر ابن أبي عثمان الطيالسي والأمير عبد الله ابن طاهر وأحمد بن الحارث الشيعي ودعل الخزاعي وبرع في الفقه والعربية وأيام الناس . ولما كبر عني بعلوم الأوائل ومهر في الفلسفة فجره ذلك إلى القول بخلق القرآن . وكان من رجال بني العباس حزماً وعزماً وعلماً وحلماً ورأياً ودهاءً وشجاعةً وسؤدداً وسماحة . قال ابن أبي الدنيا : كان أبيض ربعةً حسن الوجه تعلوه صفرةٌ قد وخطه الشيب أعين وطويل اللحية رقيقها ضيق الجبين على خده خالٌ . وقال الجاحظ : كان أبيض فيه صفرةٌ وكان ساقاه دون جسده صفراوين كأنما طليتا بزعفران . ولما خلعه الأمين غضب ودعا إلى نفسه بخراسان فبايعوه في ذلك التاريخ . وأمه أم ولد اسمها مراجل ماتت أيام نفاسها به . ودعي للمأمون بالخلافة - وأخوه الأمين حي - في آخر سنة خمسٍ وتسعين ومائة إلى أن قتل الأمين فاجتمع الناس عليه وتفرقت عماله في البلاد وأقيم الموسم سنة ستٍّ وسنة سبعٍ باسمه وهو مقيمٌ بخراسان واجتمع الناس عليه ببغداد في أول سنة ثمانٍ . وكان فصيحاً مفوهاً كان يقول : معاوية بعمره وعبد الملك بحجاجه وأنا بنفسي ورويت هذه عن المنصور . ختم في الرمضانات ثلاثاً وثلاثين ختمةً وقال يحيى بن أكثم قال المأمون : أريد أن أحدث فقلت : ومن أولى بهذا من أمير المؤمنين ؟ ! .
فقال : ضعوا لي منبراً ثم صعد فأول ما حدث : حدثنا هشيم بن أبي الجهم عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة - رفع الحديث - قال : امرؤ القيس " صاحب لواء الشعراء إِلى النار " ثم حدث بنحو ثلاثين حديثاً ثم نزل فقال : كيف رأيت يا يحيى مجلسنا ؟ فقلت : أجل مجلسٍ تفقه الخاصة والعامة . فقال : ما رأيت لكم حلاوةً إنما المجلس لأصحاب الخلقان والمحابر . وروى عن محمد بن عون عن ابن عيينة أن المأمون جلس فجاءته امرأةٌ فقالت : يا أمير المؤمنين مات أخي وخلف ستمائة ديناراً فأعطوني ديناراً وقالوا : هذا نصيبك فقال المأمون : هذا نصيبك ! .
هذا خلف أربع بناتٍ ؟ فقالت : نعم قال : لهن أربعمائة دينارٍ وخلف والدةً لها مائة دينار وخلف زوجةً لها خمسةٌ وسبعون ديناراً بالله ألك إثنا عشر أخاً ؟ قالت : نعم . قال : لكل واحدٍ ديناران ولك دينارٌ واحدٌ . وقال المأمون : لو عرف الناس حبي للعفو لتقربوا إلي بالجرائم . وقيل إن ملاحاً مر فقال : أتظنون أن هذا ينبل في عيني وقد قتل أخاه الأمين ؟ فسمعها فتبسم وقال : ما الحيلة التي أنبل في عين هذا السيد الجليل ؟ ! .
وكان المأمون بخراسان قد بايع بالعهد لعلي بن موسى الرضا الحسيني ونوه بذكره وغير زي آبائه من لبس السواد وأبدله بالحضرة فغضب بنو العباس بالعراق لهذين الأمرين وخلعوه وبايعوه إبراهيم بن المهدي عمه ولقبوه المبارك فحاربه الحسن ابن سهل فهزمه إبراهيم وألحقه بواسط وأقام إبراهيم بالمدائن ثم سار جيش الحسن وعليهم حميد الطوسي وعلي بن هشام فهزموا إبراهيم فاختفى وانقطع خبره إِلى أن أظهر في وسط خلافة المأمون فعفا عنه على ما ذكرته في ترجمة إبراهيم . وتقدم رجلٌ غريب بيده محبرةٌ فقال : يا أمير المؤمنين ! .
صاحب حديث منقطع به ! .
فقال : ما تحفظ في باب كذا ؟ فلم يذكر فيه شيئاً فما زال المأمون يقول : حدثنا هشيم وحدثنا يحيى وحدثنا الحجاج حتى ذكر الباب ثم سأله عن بابٍ آخر فلم يذكر فيه شيئاً فقال المأمون : حدثنا فلان وحدثنا فلان إِلى أن قال لأصحابه : يطلب أحدهم الحديث ثلاثة أيام ثم يقول : اعطوني أنا من أصحاب الحديث ! .
أعطوه ثلاثة دراهم ! .
ومع ذلك فكان مسرف الكرم جواداً ممدحاً فرق ساعة ستةً وعشرين ألف ألف درهم . ومدحه أعرابي مرةً فأجازه بثلاثين ألف دينار . وقال أبو معشر : كان أماراً بالعدل ميمون النقيبة فقيه النفس يعد مع كبار العلماء . وأهدى إليه ملك الروم تحفاً سنيّةً منها مائة رطل مسك ومائة حلة