وكان المنصور قد أمر بهدم دور كثيرة منها دار أبي دلامة . فكتب إلى المنصور : من الخفيف .
يا ابن عم النبي دعوة شيخ ... قد دنا هدم داره وبواره .
فهو كالماخض التي اعتادها الطل ... ق فقرت وما يقر قراره .
لكم الأرض كلها فأعيروا ... عبدكم ما احتوى عليه جداره .
ولما قدم المهدي من الري إلى بغداد دخل عليه أبو دلامة للسلام والهناء بقدومه . فأقبل عليه المهدي فقال : كيف أنت أبا دلامة ؟ قال : يا أمير المؤمنين : من الكامل .
إني حلفت لئن رأيتك سالماً ... بقرى العراق وأنت ذو وفر .
لتصلين على النبي محمد ... ولتملأن دراهماً حجري .
قال المهدي : أما الأولى فنعم وأما الثانية فلا . فقال : جعلني الله فداك إنهما كلمتان لا يفرق بينهما . فقال : يملأ حجر أبي دلامة دراهم .
فقعد وبسط حجره فملئ دراهم . فقال : قم الآن يا أبا دلامة . فقال : يتخرق قميصي يا أمير المؤمنين حتى أشيل الدراهم وأقوم . فردها إلى الأكياس وقام .
ومرض ولده فاستدعى طبيباً ليداويه وجعل له جعلاً . فلما برئ قال له : والله ما عندنا ما نعطيك ولكن ادع على فلان اليهودي وكان ذا مال بمقدار الجعل وأنا وولدي نشهد لك .
فمضى الطبيب إلى قاضي الكوفة يومئذ وكان محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وقيل عبد الله بن شبرمة وحمل إليه اليهودي المذكور وادعى عليه فأنكر اليهودي .
فقال : لي بينة . وخرج لإحضارها فأحضر أبا دلامة وابنه فدخلا إلى المجلس وخاف أبو دلامة أن يطالبه القاضي بالتزكية فأنشد في الدهليز قبل دخوله بحيث يسمع القاضي : من الطويل .
إن الناس غطوني تغطيت عنهم ... وإن بحثوا عني ففيهم مباحث .
وإن نبثوا بئري نبثت بئارهم ... قوم كيف تلك النبائث .
ثم حضرا بين يدي القاضي وأديا الشهادة فقال : كلامك مسموع وشهادتك مقبولة . ثم غرم المبلغ من عنده وأطلق اليهودي وما أمكنه أن يرد شهادتهما خوفاً من لسان أبي دلامة . وقول الحريري في المقامة الأربعين : وأنت تعلم أنك أحقر من قلامة وأعيب من بغلة أبي دلامة .
كانت لأبي دلامة بغلة يركبها في مواكب الخلفاء والكبراء ويضحكهم بشماسها وحرانها وقماصها وقد جمعت جميع المعايب فذكر بعض عيوبها في قصيدة وهي : .
أبعد الخيل أركبها كراما ... وبعد الفره من خضر البغال .
رزقت بغيلة فيها وكال ... وليته لم يكن غير الوكال .
رأيت عيوبها كثرت فليست ... وإن أكثرت ثم من المقال .
ليحصي منطقي وكلام غيري ... عشير خصالها شر الخصال .
فأهون عيبها أني إذا ما ... نزلت فقلت امشي لا أبالي .
تقوم فما تبت هناك شبراً ... وترمحني وتأخذ في قتالي .
وأني إن ركبت أذبت نفسي ... بضرب باليمين وبالشمال .
وبالرجلين أركلها جميعاً ... فيا لي في الشقاء وفي الكلال .
أتاني خائب يبتاع مني ... قديم في الخبارة والضلال .
فلما ابتاعها مني وبتت ... له في البيع غير المستقال .
أخذت بثوبه أبرئت مما ... أعد عليك من سوء الخلال .
برئت إليك من مششي يديها ... ومن جرد ومن بلل المخال .
ومن فتق بها في البطن ضخم ... ومن عقالها ومن انتقال .
ومن قطع اللسان ومن بياض ... بعينيها ومن قرض الحبال .
ومن عض الغلام ومن خراط ... إذا ما هم صحبك بارتحال .
وأقطف من فريخ الذر مشياً ... بها عرن وداء من سلال .
وتكسر سرجها أبداً شماساً ... وتقمص للأكاف على اغتيال .
ويدبر ظهرها من مسح كف ... وتهزل في الجمام من الجلال .
تظل لركبة منها وقيذاً ... يخاف عليك من ورم الطحال .
ومثفار تقدم كل سرج ... تصير دفتيه على القذال .
وتحفى لو تسير على الحشايا ... ولو تمشي على دمث الرمال .
إذا استعجلتها عثرت وبالت ... وقامت ساعة عند المبال