ومن تصانيفه ممَّا لم يتمّ إلى يومئذٍ : كتاب نهاية الإحكام لدراية الأحكام وكتاب الأربعين الكبرى يقع كل حديث منها بطرقه والكلام عليه في مجلد وله التعليقات الأربع : الكبرى والوسطى والصغرى والمصرية في اثني عشر مجلداً . ومن الأجزاء الحديثية ما يطول ذكره . وخرّج للقاضي تقي الدين وجماعة من الشيوخ وكان أولاً يعاني الجندية ثم إنه في سن خمس عشرة وسبع ماية عاود الاشتغال بالفقه والأصولين وغير ذلك فحفظ التنبيه ومختصر ابن الحاجب ومقدمتيه في النحو والتصريف ولباب الأربعين في أصول الدين لسراج الدين الأرموي وكتاب الإلمام في الأحكام وعلَّق عليه حواشي . ثم إنه رحل صحبة الشيخ كمال الدين بن الزّملكاني إلى زيارة القدس سنة سبع عشرة وسبع مائة وسمع من زينب ابنة سكن وغيرها ولازم الشيخ كمال الدين المذكور سفراً وحضراً وعلق عنه كثيراً وحج معه سنة عشرين وسبع مائة . وسمع بمكة من الشيخ رضي الدين الطَّبري ولازم القراءة على الشيخ برهان الدين الفزاري في الفقه والأصول مدة سنين وخرّج له مشيخةً وغيرها . وولي تدريس الحديث بالناصرية سنة ثمان عشرة وسبع مائة . ثم إنه درَّس بالأسدية سنة ثلاثٍ وعشرين وسبع مائة وأفتى بإذن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني وقاضي القضاة سنة أربع وعشرين وسبع مائة . ثم درّس بحلقة صاحب حمص سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مائة . ثم انتقل إلى تدريس المدرسة الصلاحية بالقدس سنة إحدى وثلاثين وسبع مائة وأقام به إلى يومئذٍ . وتولّى مشيخة دار الحديث السيفية بالقدس . اجتمعت به غير مرةٍ بدمشق والقدس والقاهرة وأخذت من فوائده في كل علمٍ . وقل أن رأيت مثله في تحقيق ما يقوله وتدقيقه ونقلت من خطله خطبةً أنشأها لدرس دار الحديث بحلقة صاحب حمص وهي : الحمد لله الذي رفع متن العلماء وجعل لهم من لدنه سنداً وأبقى حديثهم الحسن على الإملاء أبداً وأمدَّهم بمتابعات كرمه المشهور فوصل ما كان مقطوعاً وأعزّ ما كان مفرداً وحمى ضعيف قلوبهم من الاضطراب حتى غدت ثابتة الأفكار . وعدَّل موازين نظرهم حين رجحت بفضلهم البيِّن بشواهد الاعتبار وأنجز لهم من صادق وعده علوّ قدرهم المرفوع وأطاب بألسنة الأقلام وأفواه المحابر مشافهة ثنائهم المسموع وجعل شرفهم موقوفاً عليهم وشرف من عاداهم من جملة الموضوع . أحمده على حديث نعمه الحسن المتّصل المتسلسل وتواتر مننه التي يدفع بها تدليس كل أمر معضل ومزيد كرمه الذي عم المختلف والمؤتلف فلا ينقطع ولا يوقف على أن يعلَّل . وأشهد أن لا إليه إلا الله وحده لا شريك له شهادةً أتخذها لمنتقى الخير منهجاً وآنس بها يوم أمسي في جانب اللَّحد غريباً وفي طيِّ الأكفان مدرجاً . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفصح من جاء عن ربه مرسلاً وأنصح من خاطب بوحيه حتى أمسى جانب الشّرك متروكاً مهملاً . الذي رمى قلوب الأعداء وجسومهم بالتجريح وطاعن بالعوالي حتى استقام وقوي متن الدين الصحيح صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين أبادوا المنكر وأربى على المتفق والمفترق سنا مجدهم الأكبر صلاةً معتبرة الإيراد دالةً على أنهم في فضل الدنيا والآخرة نعم السّادة الأفراد .
وكتب إليّ من القدس الشريف فكتبت الجواب إليه عن ذلك : من الطويل .
أتاني كتابٌ ما ظفرت بندّه ... لأن نسيم الرَّوض طاب بندّه .
وحلَّ فحلَّ ناظريَّ ومسمعي ... بلفظٍ يفوق الدرَّ في نظم عقده .
وأهدى إلى قلبي هدوّاً فقدته ... وأطفأ من جمر الحشا حرَّ وقده .
وما كنت أرجو والحشا تلفت ظماً ... على نجل دهري أن أفوز بورده .
فقبَّلت من شوقي شفاه سطوره ... شفاهاً فروَّى غلَّتي طيب برده .
وبتُّ أناجي فيه إخلاص باطني ... وأتلو لما قد ضمَّ سورة حمده .
فإن قلت روضٌ كان في ذا محاسنٌ ... سوى ما لروض الحزن من نفح ورده .
وإن قلت أفقٌ زاد هذا بأنه ... به كلُّ نجمٍ حلَّ في أوج سعده .
بعثت به جبراً لكسرٍ أصابني ... وما كلُّ مولىً يشتهي جبر عبده .
وحقَّقت أن الودَّ منك مؤكَّدٌ ... جزى الله مولانا على حسن قصده