فاتفق أن عماد الدين زنكي صاحب الموصل قصد حصار بغداد أيام المسترشد وأرسل إلى قراجا الساقي يستنجده فأتاه وكبسهما . فأتى زنكي ووصل إلى تكريت فخدمه نجم الدين أيوب وأقام له السفن وعبر دجلة وتبعه أصحابه فأحسن إليهم وسيرهم . وبلغ ذلك بهروز فأنكر عليه وقال : كيف تظفر بعدونا فأحسنت إليه ؟ ثم إن أسد الدين شيركوه أخا نجم الدين أيوب جاءت إليه بعض الحرم باكية وقالت : أنا داخلة في الباب الذي للقلعة تعرض إلي فلان الإسبهسلار فقام شيركوه وتناول الحربة التي تكون للإسبهسلار وضربه بها فقتله فأمسكه أخوه نجم الدين واعتقله وكتب إلى بهروز بالصورة فعاد جوابه إن لأبيكما علي حقاً وما يمكنني أن أكافئكما بسوء ولكن اتركا خدمتي واخرجا من بلدي . فقصدا عماد الدين زنكي صاحب الموصل فأحسن إليهما وأقطعهما إقطاعاً جيداً . ثم لما ملك قلعة بعلبك استخلف بها نجم الدين أيوب فعمر بها خانقاه يقال لها النجمية . ولما قتل زنكي وجاء مجير الدين ابق صاحب دمشق إلى بعلبك وحصرها أرسل نجم الدين إلى سيف الدين غازي بن زنكي صاحب الموصل وقد ملك بعد والده ينهي إليه الحال . ويطلب منه عسكراً ليرحل صاحب دمشق عنه . وكان غازي ذلك الوقت . أول ملكه مشغولاً بإصلاح ملوك الأطراف ولم يتفرغ له . وضاق الأمر على من في بعلبك وخاف نجم الدين أن تؤخذ قهراً فأرسل إلى مجير الدين في تسليم القلعة وطلب إقطاعاً ذكره فأجيب إلى ذلك وحلف له ووفى له صاحب دمشق وأعطاه إقطاعاً جيداً وصار عنده مقدماً من أكبر الأمراء . واتصل أخوه أسد الدين شيركوه بخدمة نور الدين محمود بن زنكي بعد قتلة أبيه زنكي وكان يخدمه أيام والده فقربه نور الدين وأقطعه وكان يرى منه في الحروب آثاراً عجيبة يعجز غيره عنها وجعله مقدم عسكره . ثم إن نور الدين حضر دمشق وملكها وبقي شيركوه وأيوب في خدمة نور الدين إلى أن توجه شيركوه إلى مصر نجدةً لشاور على الفرنج ثم إنه استنجد بهم مرة ثانيةً فتوجه صلاح الدين مع عمه شيركوه وجرى لهم ما جرى . ووزر صلاح الدين بعد عمه شيركوه للعاضد صاحب مصر واستدعى أباه نجم الدين أيوب فجهزه نور الدين إليه سنة خمس وستين وخمس مائة . وخرج العاضد لملتقاه إلى ظاهر باب الفتوح عند شجرة الاهليلج ولم يجر بذلك لهم عادة وكان من أعجب يوم شهده الناس . وأقطعه ولده صلاح الدين الاسكندرية ودمياط والبحيرة وأقطع أخاه شمس الدولة قوص وأسوان وعيذاب وكان عبرتها في هذه السنة مائتي ألف وستة وستين ألف دينار وسلك معه ولده صلاح الدين من الأدب ما هو اللائق بمثله وعرض عليه الأمر كله فأبى وقال : يا ولدي ما اختارك الله تعالى لهذا الأمر إلا وأنت له أهل ولا ينبغي أن تغير موضع السعادة . ولم يزل عنده إلى أن استقل صلاح الدين بمملكة الديار المصرية .
وخرج صلاح الدين إلى الكرك ليحاصرها وأبوه بالقاهرة فركب يوماً ليسير على عادة الجند فخرج من باب النصر فشب به فرسه فألقاه في وسط الطريق فحمل إلى داره وبقي متألماً إلى أن توفي سنة ثمان وستين وخمس مائة . ودفن إلى جانب أخيه أسد الدين شيركوه بالدار السلطانية ثم نقل صلاح الدين تابوتيهما إلى المدينة النبوية ودفنا بتربتهما المجاورة للحجرة الشريفة سنة ثمانين وخمس مائة .
ولما عاد صلاح الدين من الكرك إلى القاهرة بلغه خبر أبيه فشق عليه ذلك وكتب إلى ابن أخيه فروخشاه بن شاهنشاه بن أيوب صاحب بعلبك كتاباً بخط الفاضل يعزيه بجده نجم الدين منه : ومن جملة المصاب بالمولى الدارج غفر الله ذنبه وسقى بالرحمة تربه ما عظمت به اللوعة واشتدت به الروعة وتضاعفت لغيبتنا عن مشهده الحسرة واستنجدنا بالصبر فأبى . وأنجدت العبرة ؛ فيا له فقيداً فقد عليه العزاء وانتثر شمل البركة فهي بعد الاجتماع أجزاء .
وتخطفته يد الردى في غيبتي ... هبني حضرت فكنت ماذا أصنع .
ورثاه الفقيه عمارة اليمني بقصيدة أولها : .
هي الصدمة الأولى فمن بان صبره ... على هول ما يلقى تضاعف أجره .
ولا بد من موت وفوت وفرقة ... ووجد بماء العين يوقد جمره .
منها : .
أصاب الهدى في نجمه بمصيبة ... تداعى سماك الجو منها ونسره