ثم إن العزيزية عزموا على قبضه في سنة ثلاث وخمسين فشعر بذلك فقبض على بعضهم وهرب بعضهم . ثم تقرر الصلح بين المعز والناصر على أن يكون الشام جميعه للناصر وديار مصر للمعز وحد ما بينهما بئر القاضي وهو ما بين الورادة والعريش بسفارة الشيخ نجم الدين الباذرائي . وتزوج المعز بشجر الدر سنة ثلاث وخمسين ثم بلغها أن المعز عزم على أن يتزوج ابنة بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وأنه قد ترددت الرسل بينهما فعظم ذلك عليها وطلبت صفي الدين إبراهيم بن مرزوق وكان له تقدم في الدول ووجاهة عند الملوك فاستشارته في الفتك بالمعز ووعدته أن يكون هو الوزير فأنكر ذلك عليها ونهاها فلم تصغ إليه وطلبت مملوك الطواشي محسن الجوجري الصالحي وعرفته ما عزمت عليه ووعدته وعداً جميلاً إن قتله واتفقت مع جماعة من الخدم . فلما كان يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة خمس وخمسين وستمائة لعب المعز بالكرة في ميدان اللوق وصعد آخر النهار إلى القلعة والأمراء في خدمته ووزيره شرف الدين الفائزي والقاضي بدر الدين السنجاري فلما دخل داره فارقه الموكب ودخل يستحم في الحمام فلما قلع ثيابه وثب عليه سنجر الجوجري والخدام ورموه إلى الأرض وخنقوه وطلبت شجر الدر صفي الدين ابن مرزوق على لسان المعز فركب حماره وبادر وكانت عادته ركوب الحمير في موكب السلطان فدخل عليها فرآها وهي جالسة والمعز بين يديها ميت فخاف خوفاً شديداً واستشارته فيما تفعل فقال : ما أعرف . وكان الأمير جمال الدين أيدغدي العزيزي معتقلاً في بعض الآدر مكرماً فأحضرته وطلبت منه أن يقوم بالأمر فامتنع وسيرت تلك الليلة إصبع المعز وخاتمه إلى الأمير عز الدين الحلبي الكبير وطلبته يقوم بالأمر فلم يجسر وانطوت الأخبار عن الناس تلك الليلة . ولما كان سحر الأربعاء ركب الأمراء على عادتهم إلى القلعة ولم يركب الفائزي وتحيرت شجر الدر فأرسلت إلى الملك المنصور علي ابن الملك المعز تقول له عن أبيه أنه ينزل إلى البحر في جمع من الأمراء لإصلاح الشواني المجهزة إلى دمياط ففعل . ولما تعالى النهار شاع الخبر بقتله واضطربت أقوال الناس في قتله فأحدق العسكر بالقلعة ودخلها مماليك المعز والأمير بهاء الدين بغدي الأشرفي مقدم الحلقة وطمع الحلبي في التقدم وساعده على ذلك جماعة من الأمراء الصالحية فلم يتم لهم مراد . ثم إن الذين في القلعة استحضروا الفائزي الوزير واتفقوا على تمليك الملك المنصور علي ابن الملك المعز وعمره يومئذ نحو خمس عشرة سنة فرتبوه ونودي في البلد بشعاره واستقر أمر الناس وتفرق الصالحية إلى دورهم . وامتنعت شجر الدر مع الذين قتلوا المعز في دار السلطنة وطلب مماليك المعز الهجوم عليها فلم يمكنوهم مماليك الصالح فحلف لها مماليك المعز أن لا ينالوها بمساءة وطلبوا الصفي بن مرزوق فحدثهم بالقصة فصلب الخادم محسن والذين اتفقوا على قتل المعز وهرب سنجر مملوك الجوجري ثم ظفر به فصلب إلى جانب أستاذه . وكان ذلك سنة خمس وخمسين وستمائة . وقال السراج الوراق يرثيه من الطويل : .
نقيم عليه مأتماً بعد مأتمٍ ... ونسفح دمعاً دون سفح المقطَّمِ .
ولو أننا نَبْكي على قدر فَقدْه ... لدمنا عليه نتبع الدمع بالدم .
وأرى بعد عام للأسى جدة الصبي ... كأنّ خطا الأيّام لم تتقدَّمِ .
وسَلْ صَفَراً يُنْبيك عنّيَ أنّني ... دعوتُ الكرى من بَعده بالمحرَّمِ .
يمثِّل لي شخصَ المعزِّ إذا بدتْ ... لعينيَ اطلابُ الخميس العَرَمْرَمِ .
وتذكرنيه الخيلُ ما بين مُسْرجٍ ... غدا ملجماً صبري وما بين مُلجمِ .
كأنْ لم يسْر والجيش قد ملأ الفضا ... فَغَصَّ به والخيلُ بالخيل ترتمي .
كأن لم يكن والناس ما بين معرق ... لأبوابه تسري وما بين مشئم .
كأنْ لم يتوًّج منبرٌ باسمه ولا ... علا وجْهَ دينار ولا وجه درهمِ .
كأنْ لم يكن بالسمهريّة باحثاً ... على كلِّ شيءٍ مِن عُداه مكتّمِ .
ألا نَمْ هنيئاً إنّ ثارك لم ينَمْ ... له أعينٌ قد حصَّنت كلَّ لَهْذَمِ