ثم أرسل إلى إسماعيل بن عبد الله ابن أبي المهاجر ودفع إليه الكتابين . وقال : اذهب إلى أنس والحجاج وابدأ بأنس وقل له : أمير المؤمنين يسلم عليك ويقول لك : قد كتبت إلى عبد نبي ثقيف كتاباً إذا قرأه كان أطوع لك من أمتك واستعرض حوائجه ! .
فركب إسماعيل البريد فلما دفع الكتاب إلى الحجاج جعل يقرأه ويتمعر وجهه ويرشح عرقاً ويقول : يغفر الله لأمير المؤمنين ! .
ثم قال : نمضي إلى أنس ! .
فقال له : على رسلك ! .
ثم مضى إلى أنس وقال له : يا أبا حمزة قد فعل أمير المؤمنين معك ما فعل وهو يقرأ عليك السلام ويستعرض حوائجك . فبكى أنس وقال : جزاه الله خيراً كان أعرف بحقي وأبر بي من الحجاج . قال : وقد عزم الحجاج على المجيء إليك فإن رأيت أن تتفضل عليه فأنت أول بالفضل . فقام أنس ودخل إلى الحجاج فقام إليه واعتنقه وأجلسه على سريره وقال : يا أبا حمزة عجلت علي بالملامة وأغضبت أمير المؤمنين وأخذ يعتذر إليه ويقول : قد علمت شغب أهل العراق وما كان من ابنك مع ابن الجارود ومن خروجك مع ابن الأشعث فأردت أن يعلموا أني أسرع إليهم بالعقوبة إذ قلت لمثلك ما قلت . فقال أنس : ما شكوت حتى بلغ مني الجهد زعمت أننا الأشرار والله سمانا الأنصار وزعمت أننا أهل النفاق ونحن الذين تبوأنا الدار والإيمان والله يحكم بيننا وبينك . وما وكلتك إلى أمير المؤمنين إلا حيث لم يكن لي به قوة ولا آوي إلى ركن شديد ! .
ودعا لعبد الملك وقال : إن رأيت خيراً حمدت وإن رأيت شراً صبرت وبالله استعنت . وكتب الحجاج إلى عبد الملك : أما بعد فأصلح الله أمير المؤمنين وأبقاه ولا أعدمناه وصلني الكتاب يذكر فيه شتمي وتعييري بما كان قبل نزول النعمة بي من أمير المؤمنين ويذكر استطالتي على أنس جرأة منى على أمير المؤمنين وغرة مني بمعرفة سطواته ونقماته . وأمير المؤمنين أعزه الله في قرابته من رسول الله A أحق من أقالني عثبرتي وعفا عن جريمتي ولم يعجل عقوبتي ورأيه العالي في تفريج كربتي وتسكين روعتي أقاله الله العثرات ! .
قد رأى إسماعيل ابن أبي المهاجر خضوعي لأنس وإعظامي إياه... واعتذر اعتذاراً كثيراً .
ولما قدم الحجاج العراق أرسل إلى أنس فقال : يا أبا حمزة إنك قد صبحت رسول الله A ورأيت من عمله وسيرته ومنهاجه فهذا خاتمي فليكن في يدك فأرى برأيك ولا أعمل شيئاً إلا بأمرك . فقال له أنس : أنا شيخ كبير قد ضعفت ورققت وليس في اليوم ذاك . فقال : قد عملت لفلان وفلان فما بالي أنا ؟ فانظر إن كان في بنيك ممن تثق بدينه وأمانته وعقله ! .
قال : ما في نبي من أثق لك به ! .
وكثر الكلام بينهما .
وقال يوماً من جملة كلام : لقد عبت فما تركت شيئاً ولولا خدمتك لرسول الله A وكتاب أمير المؤمنين لكان لي ولك شأن من الشأن . فقال أنس : هيهات ! .
إني لما خدمت رسول الله A علمني كلماتٍ لا يضرني معهن عتو جبار . فقال له الحجاج : يا عماه لو علمتنيهن ! .
فقال : لست لذلك بأهل ! .
فدس إليه الحجاج ابنه محمداً ومعه مائتي ألف درهم ومات الحجاج قبل أن يظفر بالكلمات وهي : " بسم الله على نفسي وديني بسم الله على أهلي ومالي بسم الله على كل شيء أعطاني بسم الله خير الأسماء بسم الله رب الأرض والسماء بسم الله الذي لا يضر مع اسمه داء بسم الله افتتحت وعلى الله توكلت الله ربي لا أشرك به أحداً اللهم أنت جاري من كل شيء " . " قل هو الله أحد... . . " السورة . من خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي ومن تحتي .
وقال أنس : دفنت من صلبي مائة ولد وإن نخلي يثمر في السنة مرتين ولقد عشت حتى استحييت من أهلي وأنا أرجو الرابعة . يعني : المغفرة لأن النبي A قال : اللهم أكثير ماله وولده وأطل عمره واغفر له ذنبه وبارك له فيما أعطيته . وكان أنس قد ختمه الحجاج في عنقه