ولما قصد صاعد الوزير إسماعيل بن بلبل لزم داره وكان له حمل قد قرب وضعه فطلب منجماً يأخذ مولده فأتي به فقال بعض من حضر : ها هنا أعرابي عائف ليس في الدنيا أحذق منه . فأحضره فلما دخل قال له إسماعيل : تدري لماذا طلبناك ؟ فقال : نعم . فأدار عينه في الدار فقال : لتسألني عن حمل . فقال : أي شيء هو ؟ أذكر أو أنثى ؟ فأدار عينه فقال : ذكر . فقال للمنجم : ما تقول في هذا ؟ قال : هذا جهل ! .
فبينا هم كذلك إذ طار زنبور على رأس إسماعيل وغلام يذب عنه فقتله فقام الأعرابي فقال : قتلت والله المتزنر ووليت مكانه ولي حق البشارة ! .
وجعل يرقص وإسماعيل يسكنه . فبينا هم كذلك إذ وقعت الصيحة بخبر الولادة وقالوا : مولود ذكر . فسر إسماعيل بذلك لإصابة العائف ووهبه شيئاً . وما مضى على ذلك إلا دون الشهر حتى استدعى الموفق إسماعيل وقلده الوزارة وسلم إليه صاعداً فكان يعذبه إلى أن قتله ولما سلم إليه صاعد ذكر كلام العائف فأحضره وقال : أخبرني من أين علمت ما قتله لي ذلك اليوم وليس لك علم بالغيب ؟ فقال : نحن نتفاءل ونزجر وأنت سألتني أولاً فنلمحت الدار فوقعت عيني على برادة عليها كيزان معلقة في أعلاها فقلت : حمل ثم قلت لي : أذكر أم أنثى ؟ فتلمحت فرأيت فوق البرادة عصفوراً ذكراً فقلت : ذكر ثم طار الزنبور عليك وهو محضر والنصارى يتحضرون بالزنانير والزنبور عدو يريد أن يلسعك وصاعد نصراني الأصل وهو عدوك فزجرت أن الغلام لما قتله أنك ستقتله . فاستحسن ذلك ووهبه شيئاً صالحاً وصرفه .
قال أبو العباس ابن الفرات : كنت حاضر مجلس إسماعيل بن بلبل في وزارته وقد جلس مجلساً عاماً فدخل إليه المتظلمون والناس على طبقاتهم فنظر في أمورهم فما انصرف أحد منهم إلا بولاية أو صلةٍ أو قضاء حاجةٍ أو بر أو إنصاف من مظلمة أو توقيعٍ في مصلحة ضيعةٍ أو نظرٍ في خراج أو حالٍ يسره وبقي رجل فقام إليه من آخر المجلس وسأله تسبيب إجارة ضيعة فقال : إن الأمير يغي الموفق أمرني أن لا أسبب شيئاً إلا عن أمره وأنا أكتب إليه في ذلك ! .
فقال الرجل : متى تركني الوزير أو أخر حاجتي فسد حالي . فقال لأبي مروان عبد الملك بن محمد : اكتب حاجته في التذكرة التي تحضرني لتكون فيما أكاتب به الأمير ! .
فولى الرجل غير بعيد ثم رجع فقال : أيأذن لي الوزير في الكلام ؟ فقال : قل ! .
فأنشأ يقول من الخفيف : .
ليس في كلّ دولةٍ وأوان ... تتهيّا صنائعُ الإحسانِ .
وإذا أمكنَتْك يوماً من الده ... ر فبادِرْ بها صروف الزمان .
وتشاغلْ بها ولاتَلْهُ عنها ... حَذَراً من تعذُّر الإمكان .
قال : فقال لي : يا أبا العباس اكتب لي بتسبيب إجارة ضيعته الساعة ! .
وأمر هارون بن عمران الجهبذ أن يدفع إليه من يومه من ماله خمسمائة دينار . قال : فخرجت فكتبت له ذلك وقبض المال من وقته . وأخباره في المكارم كثيرة . ومن شعره من السريع : .
ما آن للمعشوق أن يَرحما ... قد أنحل الجسم وأبكي الدِّما .
ووكَّل العينَ بتِسْهادها ... تَفْديه نفسي ظالماً حَكَما .
وسُنّة المعشوق أن لا يرى ... في قتْل مَن يعشقه مأثما .
لو راقب الله شفى غُلّتي ... والعدلُ أن يُبرِئ من أسقما .
ومنه من السريع : .
يا ذا الذي تكتب عيناه ... باللحظ ما لا يتهجّاهُ .
إن كنتَ ذا جهل بحبّي فقد ... جهلت ما يعلمه اللهُ .
وقال فيه ابن أبي فنن الشاعر من السريع : .
قفْ يا أبا الصقر فكم طائرٍ ... خرّ صريعاً بعد تحليقِ .
زُوِّجتَ نُعمى لم تكًنْ كُفْأها ... قَضى لها اللهُ بتطليقِ .
وكلّ نُعمْى غيرُ مشكورة ... رهنُ زوالٍ بعد تمحيق .
لا قُدِّسَتْ نُعْمى تسربلتَها ... كم حجّةٍ فيها لزِنديقِ ؟ ! .
وقد تقدم في ترجمة إبراهيم بن عيسى الدمن المدائني ما هجا به المذكور إسماعيل بن بلبل .
شمس الملوك صاحب دمشق