وكان جيد الضبط وخطه معروف وله أجزاء كثيرة يقول في آخر كل منها وهي أجزاء كبار : كتبت جميع هذا الجزء في الليلة الفلانية . وقال : أكتب إلى قبيل الفجر ثم أنام . وكان كأنه شعلة نارٍ في تحصيل الحديث وكان ابن الأكفاني شيخه يقوم له ويتلقاه ويعظمه وإذا خرج يشيعه . وكتب حتى عن من كتب عنه ولم يزل يسمع إلى ليلة وفاته ولم يزل أمره يعظم بالإسكندرية حتى صار له عند ملوك مصر الاسم والجاه العريض والكلمة النافذة مع مخالفته لهم في المذهب وقلة مبالاته بهم في أمر الدين لعقله ودينه وحسن مجالسته وأدب نفسه وتألفه الناس واعترافه بالحقوق وشكره لها وإرفاده للوفاد وكان لا يكاد تبدو منه جفوة في حق أحد وإن بدأته بادرها حتى لا ينفصل عنه أحد إلا طيب القلب . وكان يجلس من أول المجلس إلى آخره لا يبصق ولا يتنخم ولا يشرب ولا يتورك في جلوسه ولا يبدو له قدم وإن بدت غطاها . وكان السلطان صلاح الدين تحدث هو وأخوه في مجلسه وهما يسمعان عليه فزبرهما وقال : أيش هذا ؟ نحن نقرأ أحاديث رسول الله A وأنتما تتحدثان . وقصده الناس ورحلوا حتى السلطان صلاح الدين وأولاده وإخوته . وتوفي ليلة الجمعة خامس شهر ربيع الآخر سنة ست وسبعين وخمس مائة بعد الزياة على المائة بسنين لأن مولده بعيد السبعين والأربع مائة على خلاف فيه لأنه قال : أنا أذكر قتل نظام الملك في سنة خمس وثمانين وكان عمري في حدود عشر سنين . وبنى له العادل علي بن السلار أمير مصر مدرسة بالإسكندرية . ولما مات وجدت خزائن كتبه قد التصقت وعفنت لكثرتها فكانوا يستخلصونها بالفأس وتلف أكثرها . وارتحل إليه ابن سناء الملك المشهور وسمع عليه الحديث وامتدحه بقصيدة التي أولها : .
حمد السرى وهي الحقيقة بالذم ... لفرقة أرضٍ غاب عن أفقها نجمي .
منها : .
نسيت سوى دارٍ بكيت برسمها ... وذلك رسمي إن وقفت على رسمي .
وديعة مسكٍ في ثراها وجدتها ... فصيرت لثمي للوديعة كالختم .
على سنة العشاق أو بدعة الهوى ... حلمت بجهلي أو جهلت به حلمي .
ولكنني أنشرت فهمي من البلى ... كما أنني أيقظت حلمي من الحلم .
وأقبل نسكي حين ولت شبيبتي ... وآض اعتزامي حين عاينه حزمي .
فجئت إلى الإسكندرية قاصداً ... إلى كعبة الإسلام أو علم العلم .
إلى خير دينٍ عنده خير مرشدٍ ... وخير إمامٍ عنده خير مؤتمّ .
إلى أحمد المحيي شريعة أحمدٍ ... فلا عدمت منه أباً أمة الأمي .
حمى بدعاءٍ أو همى بفوائد ... فبورك مما زال يحمي كما يهمي .
تقوّس تقويس الهلال تهجداً ... وذاك هلال يفضح البدر في التمّ .
إذا ما شياطين الضلال تمردت ... جدالاً فمن أقواله كوكب الرجم .
تكاد لديه العرب والفخر فخرها ... تقرّ له أن المفاخر في العجم .
أبو الدهر عمراً واعتزاماً ومنصباً ... فلا ذاق منه دهره فجعة اليتم .
وغزل هذه القصيدة في غاية الحسن .
وأما ابن قلاقس الإسكندري الشاعر فأكثر مدائحه فيه . فمن ذلك قوله قصيدة أولها : .
قرنت بواو الصدغ صاد المقبل ... وأغريت بي لام العذار المسلسل .
منها : .
وهل أنا إلا نبعة يمنية ... منضرة الأفنان في رأس يذبل .
سقى أصلها النعمان ماء مفاخرٍ ... فأثمر منها كلّ فرع بأفضل .
ومن كان صدر الدين أحمد شيخه ... أطال بها باعي يمينٍ ومقول .
إمامٌ لقيت الدهر أدهم دونه ... فألبسه وصف الأغرّ المحجّل .
أقام به الله الشريعة فاعتلت ... دعائمها فوق السماك وتعتلي .
يفسر من ألفاظها كل مبهمٍ ... ويفتح من أعراضها كل مقفل .
وما كان لولا أحمدٌ دين أحمدٍ ... ليدرى صحيح سالم من معلل .
ولا عرفت حفاظه بين مسندٍ ... بعنعنةٍ رفعاً ولا بين مرسل .
لسر العطايا في أسارير وجهه ... مخايل برق العارض المتهلل .
منها :