وقد أنزل الله D في شأنه وما كان من أمره سورة من القرآن العظيم ليتدبر ما فيها من الحكم والمواعظ والآداب والأمر الحكيم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : { بسم الله الرحمن الرحيم آلر تلك آيات الكتاب الميين * إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون * نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين } .
قد تكلمنا على الحروف المقطعة في أول تفسير سورة البقرة فمن أراد تحقيقه فلينظره ثم وتكلمنا على هذه السورة مستقصى في موضعها من التفسير ونحن نذكر هاهنا نبذا مما هناك على وجه الإيجاز والنجاز .
وجملة القول في هذا المقام : أنه تعالى يمدح كتابه العظيم الذي أنزله على عبده ورسوله الكريم بلسان عربي فصيح بين واضح جلي يفهمه كل عاقل ذكي زكي فهو أشرف كتاب نزل من السماء أنزله أشرف الملائكة على أشرف الخلق في أشرف زمان ومكان بأفصح لغة وأظهر بيان .
فإن كان السياق في الأخبار الماضية أو الآتية ذكر أحسنها وأبينها وأظهر الحق مما اختلف الناس فيه ودمغ الباطل وزيفه ورده .
وإن كان في الأوامر والنواهي فأعدل الشرائع وأوضح المناهج وأبين حكما وأعدل حكما فهو كما قال تعالى : { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } .
يعني صدقا في الأخبار وعدلا في الأوامر والنواهي .
ولهذا قال تعالى : { نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين } أي بالنسبة إلى ما أوحي إليك فيه .
كما قال تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور } .
وقال تعالى : { كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا * من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا * خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا } .
يعني من أعرض عن هذا القرآن واتبع غيره من الكتب فإنه يناله هذا الوعيد كما قال في الحديث المروي في المسند و الترمذي عن أمير المؤمنين علي مرفوعا وموقوفا : [ من ابتغى الهدى في غيره أضله الله ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا سريج بن النعمان حدثنا هشام أنبأنا خالد عن الشعبي عن جابر : أن عمر بن الخطاب أتى النبي A بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبي A قال : فغضب وقال : [ أتتهوكون فيها يا ابن الخطاب ؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبونه أو بباطل فتصدقونه والذي نفس بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني ] إسناد صحيح .
ورواه أحمد من وجه آخر عن عمر وفيه فقال رسول الله A : [ والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم إنك حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين ] .
وقد أوردت طرق هذا الحديث وألفاظه في أول سورة يوسف وفي بعضها : أن رسول الله A خطب الناس فقال في خطبته : [ أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه واختصر لي اختصارا وقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تتهوكوا ولم يغرنكم المتهوكون ] ثم أمر بتلك الصحيفة فمحيت حرفا حرفا .
{ إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين * قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين * وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم } .
قد قدمنا أن يعقوب كان له من البنين اثنا عشر ولدا ذكرا وسميناهم وإليهم تنسب أسباط بني إسرائيل كلهم وكان أشرفهم وأجلهم وأعظمهم يوسف عليه السلام .
وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنه لم يكن فيهم نبي غيره وباقي إخوته لم يوح إليهم .
وظاهر ما ذكر من فعالهم ومقالهم في هذه القصة يدل على هذا القول .
ومن استدل على نبوتهم بقوله : { قل آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق يعقوب والأسباط } وزعم أن هؤلاء هم الأسباط فليس استدلاله بقوي لأن المراد بالأسباط شعوب بني إسرائيل وما كان يوجب فيهم من الأنبياء الذين ينزل عليهم الوحي من السماء والله أعلم .
ومما يؤيد أن يوسف عليه السلام هو المختص من بين إخوته بالرسالة والنبوة أنه ما نص على واحد من إخوته سواه فدل على ما ذكرناه .
ويستأنس لهذا بما قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد حدثنا عبد الرحمن عن عبد الله ابن دينار عن أبيه عن ابن عمر أن رسول الله A قال : [ الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ] .
انفرد به البخاري فرواه عن عبد الله بن محمد وعبدة عن عبد الصمد بن عبد الوارث به وقد ذكرنا طرفه قي قصة إبراهيم بما أغنى عن إعادته هنا ولله الحمد والمنة .
قال المفسرون وغيرهم : رأى يوسف عليه السلام وهو صغير قبل أن يحتلم كأن أحد عشر كوكبا وهم إشارة إلى بقية إخوته والشمس والقمر وهما عبارة عن أبويه قد سجدوا له فهاله ذلك .
فلما استيقظ قصها على أبيه فعرف أبوه أن سينال منزلة عالية ورفعة عضيمة في الدنيا والآخرة بحيث يخضع له أبوه وإخوته فيها فأمره بكتمانها وألا يقصها على إخوته كيلا يحسدوه ويبغوا له الغوائل ويكيدوه بأنواع الحيل والمكر وهذا يدل على ما ذكرناه .
ولهذا جاء في بعض الآثار : استعينوا على قضاء حوائجكم بكتمانها فإن كل ذي نعمة محسود .
وعند أهل الكتاب أنه قصها على أبيه وإخوته معا وهو غلط منهم .
{ وكذلك يجتبيك ربك } أي وكما أراك هذه الرؤيا العظيمة فإذا كتمتها { يجتبيك ربك } أي يخصك بأنواع اللطف والرحمة { ويعلمك من تأويل الأحاديث } أي يفهمك من معاني الكلام وتعبير المنام ما لا يفهمه غيرك .
{ ويتم نعمته عليك } أي بالوحي إليك { وعلى آل يعقوب } أي بسببك ويحصل لهم بك خير الدنيا والآخرة { كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق } أي ينعم عليك ويحسن إليك بالنبوة كما أعطاها أباك يعقوب وجدك إسحاق ووالد جدك إبراهيم الخليل { إن ربك عليم حكيم } كما قال تعالى : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } .
لهذا قال رسول الله A لما سئل : أي الناس أكرم ؟ قال : [ يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله ] .
وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما وأبو يعلى والبزار في مسنديهما من حديث الحكم بن ظهير - وقد ضعفه الأئمة - عن السدي عن عبد الرحمن بن سابط عن جابر قال : أتي النبي A رجل من اليهود يقال له : بستانة اليهودي فقال : يا محمد أخبرني عن الكوا كب التي رآها يوسف أنها ساجدة له ما أساؤها ؟ قال : فسكت النبي A فلم يجبه بشيء ونزل جبريل عليه السلام بأسمائها قال : فبعث إليه رسول الله فقال : [ هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسمائها ] قال : نعم فقال : [ هي جريان والطارق والذيال وذو الكتفان وقابس ووثاب وعمودان والفيلق والمصبح والضروح وذو الفرع والضياء والنور ] .
فقال اليهودي : أي والله إنها لأسماؤها وعند أبي يعلى : فلما قصها على أبيه قال : هذا أمر مشتت يجمعه الله والشمس أبوه والقمر أمه .
{ لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين * إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلي أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين * اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين * قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين } .
ينبه تعالى على ما في هذه القصة من الآيات والحكم والدلالات المواعظ والبينات ثم ذكر حسد إخوة يوسف له على محبة أبيه له ولأخيه - يعنون شقيقه لأمه بنيامين - أكثر منهم وهم عصبة أي جماعة يقولون : فكنا نحن أحق بالمحبة من هذين { إن أبانا لفي ضلال مبين } أي بتقديمه حبهما علينا .
ثم اشتوروا فيما بينهم في قتل يوسف أو إبعاده إلى أرض لا يرجع منها ليخلوا لهم وجه أبيهم : أي لتتمحض محبته لهم وتتوفر عليهم وأضمروا التوبة بعد ذلك .
فلما تمالئوا على ذلك وتوافقوا عليه : { قال قائل منهم } قال مجاهد : هو شمعون وقال السدي : هو يهوذا وقال قتادة ومحمد بن إسحاق : هو أكبرهم روبيل : { لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة } أي المارة من المسافرين { إن كنتم فاعلين } ما تقولون لا محالة فليكن هذا الذي أقول لكم فهو أقرب حالا من قتله أو نفيه وتغريبه .
فأجمعوا رأيهم على هذا فعند ذلك { قالوا يا أبانا مالك لاتأمنا على يوسف وإنا له لناصحون * أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون * قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون * قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون } طلبوا من أبيهم أن يرسل معهم أخاهم يوسف وأظهروا له أنهم يريدون أن يرعي معهم وأن يلعب وينبسط وقد أضمروا له ما الله به عليم .
فأجابهم الشيخ عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم : يا بني يشق علي أن أفارقه ساعة من النهار ومع هذا أخشى أن تشغلوا في لعبكم وما أنتم فيه فيأتي الذئب فيأكله ولا يقدر على دفعه عنه لصغره وغفلتكم عنه .
{ قالوا لئن أكله الذئب ونحن غصبة إنا إذا لخاسرون } أي لئن عدا عليه الذئب فأكله من بيننا أو اشتغلنا عنه حتى وقع هذا ونحن جماعة إنا إذن لخاسرون أي عاجزون هالكون .
وعند أهل الكتاب : أنه أرسله وراءهم يتبعهم فضل عن الطريق حتى أرشده رجل إليهم وهذا أيضا من غلطهم وخطئهم في التعريب فإن يعقوب عليه السلام كان أحرص عليه من أن يبعثه معهم فكيف يبعثه وحده .
{ فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون * وجاءوا أباهم عشاء يبكون * قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين * وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون } .
لم يزالوا بأبيهم حتى بعثه معهم فما كان إلا أن غابوا عن عينيه فجعلوا يشتمونه ويهينونه بالفعال والمقال وأجمعوا على إلقائه في غيابة الجب أي في قعره على راعونته وهي الصخرة التي تكون في وسطه يقف عليها " الماتح " وهو الذي ينزل لميلأ الدلاء إذا قل الماء والذي يرفعها بالحبل يسمى " الماتح " .
فلما ألقوه فيه أوحى الله إليه : أنه لا بد لك من فرج ومخرج من هذه الشدة التي أنت فيها ولتخبرن إخوتك بصنيعهم هذا في حال أنت فيها عزيز وهم محتاجون إليك خائفون منك { وهم لايشعرون } .
قال مجاهد وقتادة : وهم لا يشعرون بإيحاء الله إليه ذلك وعن ابن عباس : { وهم لا يشعرون } أي لتخبرنهم بأمرهم هذا في حال لا يرفونك فيها رواه ابن جرير عنه .
فلما وضعوه فيه ورجعوا عنه أخذوا قميصه فلطخوه بشيء من دم ورجعوا إلى أبيهم عشاء وهم يبكون أي على أخيهم ولهذا قال بعض السلف : لا يغرنك بكاء المتظلم فرب ظالم وهو باك ! وذكر بكاء إخوة يوسف وقد جاءوا أباهم عشاء يبكون أي في ظلمة الليل ليكون أمشى لغدرهم لا لعذرهم .
{ قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا } أي ثيابنا { فأكله الذئب } أي في غيبتنا عنه في استباقنا وقولهم : { وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين } أي ما أنت بمصدق لنا في الذي أخبرناك من أكل الذئب له ولو كنا غير متهمين عندك .
فكيف وأنت تتهمنا في هذا ؟ فإنك خشيت أن يأكله الذئب وضمنا لك ألا يأكله لكثرتنا حوله فصرنا غير مصدقين عندك فمعذور أنت في عدم تصديقك لنا والحالة هذه .
{ وجاءوا علي قميصه بدم كذب } أي مكذوب مفتعل لأنهم عمدوا إلى سخلة ذبحوها فأخذوا من دمها فوضعوه على قميصه ليوهموه أنه أكله الذئب قالوا : ونسوا أن يحرقوه وآفة الكذب النسيان ! ولما ظهرت عليهم علائم الريبة لم يرج صنيعهم على أبيهم فإنه كان يفهم عداوتهم له وحسدهم إياه على محبته له من بينهم أكثر منهم لما كان يتوسم فيه من الجلالة والمهابة التي كانت عليه في صغره لما يريد الله أن يخصه به من نبوته ولما راودوه عن أخذه فبمجرد ما أخذوه أعدموه وغيبوه عن عينيه وجاءوا وهو يتباكون وعلى ما تمالئوا يتواطئون ولهذا : { قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون } .
وعند أهل الكتاب : أن روبيل أشار بوضعه في الجب ليأحذه من حيث لا يشعرون ويرده إلي أبيه فغافلوه وباعوه لتلك القافلة فلما جاء روبيل آخر النهار ليخرج يوسف لم يجده فصاع وشق ثيابه وعمد أولئك إلى جدى فذبحوه ولطخوا من دمه جبة يوسف فلما علم يعقوب شق ثيابه ولبس مئزرا أسود وحزن على ابنه أياما كثيرة وهذه الركاكة جاءت من خطئهم في التعبير والتصوير