- روى الطبراني مرفوعا : [ [ من ترك الصف الأول مخافة أن يؤذي أحدا أضعف الله له أجر الصف الأول ] ] . وروى الإمام أحمد ومسلم وغيرهما مرفوعا : [ [ ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم في صغر السن وخفة العقل ] ] . فجعل الأمر بالوقوف في الصف الأول لكاملي السن والعقل وهو يحتمل المعنيين السابقين عن الصوفية وعن الفقهاء وعن المحدثين . وروى الإمام أحمد وغيره مرفوعا : [ [ إن الله وملائكته يصلون على أهل الصف الأول ] ] . وهو يشمل أهله حقا وأهله مجازا كما قاله بعضهم ويكون المراد بأهل الصف الأول الذين جمعوا صفات الكمال ثم وقفوا في الصف الأول لا من عصى ربه وتعاطى أسباب الفسق ثم وقف فيه وكذلك يشمل المعنيين أيضا حديث مسلم مرفوعا : [ [ خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها ] ] . فإن بعض الصوفية قال المراد بالرجال الكمل الأولياء الذين لا يشغلهم عن الله شاغل كما في قوله تعالى : { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } . فليتأمل ذلك ويتحرر الله أعلم .
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله A ) أن لا نقف في الصف المؤخر ونترك المقدم إلا لعذر صحيح شرعي وقد عد الصوفية من الأعذار المسوغة للوقوف في الصف المؤخر أن يكون أحدنا كثير الوقوع في المخالفات كثير الأكل للشهوات بخيلا على الفقراء والمساكين بما زاد عن حاجته بحب الشهوة بالصلاح والعلم ونحو ذلك كما سيأتي في عهد الزهد في الدنيا مرفوعا : أن رسول الله A قال في الدنيا : [ [ ولها يجمع من لا عقل له ] ] رواه الترمذي . فجعل من يجمع الدنيا مجنونا وهو يؤيد ما ذكره الصوفية فإن من كان كثير الوقوع في المعاصي والشبهات فهو قليل العقل بيقين لأن العقل ما سمي بذلك إلا لعقله صاحبه عن المخالفات .
فاعلم أنه لا ينبغي على هذا التقدير المعاصي أن يتقدم وائل الصفوف وإنما ينبغي ذلك لمن كان سالما منها . قلت : ولعل هذا كان مشهد من نقل عنه الوقوف في أواخر الصفوف من الأولياء كسيدي أحمد الزاهد وسيدي مدين وسيدي محمد الغمري Bهم فقد أخبرني جماعة من أصحابهم أنهم لم يروهم قط يصلون في غير الصف الأخير ويقولون : قد بلغنا أن الرحمة تستقر في الصف الأخير [ الأول ؟ ؟ ] وإذا غفر لأهل صف غفر لمن ورائهم وربما كانوا يظنون بأنفسهم السوء وأن فيها سائر العيوب .
وقد قيل مرة لسيدي الشيخ أبي العباس الغمري C : لم لا تصلي في الصف الأول ؟ فقال لست من أهل الصف الأول حتى أتقدم إليه فقيل له ومن أهله فقال من لم تتطلخ جارحة من جوارحه بذنب أو لم يصر على خطيئة لحظة فقيل له اعتقادنا فيكم أنكم كذلك بحمد الله فقال أنا أعلم بنفسي ولم يزل يصلي في الصف الأخير إلى أن مات . وهذا ما عليه أئمة الصوفية الذين تحفهم هيبة الله D وكشف الحجاب عنهم فلو أقمنا لأحدهم الأدلة على أن يقف في الصف الأول لا يستطيع من هيبة الله D والحياء منه وأما ما عليه جمهور الفقهاء والمحدثين فهو مطلوبية الوقوف في الصف الأول لكل بالغ عاقل البلوغ المشهور .
فالعقل المشهور الذي بنيت عليه أحكام التكليف ويميز به بين الحسن والقبيح ولو لم يعمل بعلمه حتى صار معدودا من الفسقة بخلاف البلوغ والعقل في مصطلح أهل الله D من الصوفية فإن البلوغ عندهم هو بلوغ الشخص أوج مراتب الكمال في الولاية والعقل عندهم الاشتغال بما هو الأولى في كل وقت حتى لا يكتب عليه كاتب الشمال أبدا شيئا على أن العلة التي فهمها الصوفية من حديث [ [ ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى ] ] يقبلها العقل ولا يردها إذا حملنا أولي النهى على العقل الكامل الذي يحجز صاحبه عن المعاصي فكما أن الصوفية دائما مع العلة التي هي عدم جمع الدنيا فإن وجدت عندهم تقدموا إلى الصف الأول وإن فقدت تأخروا فكذلك جمهور العلماء دائرون مع ظاهر أحاديث الشريعة ولو فقدت العلة كما داروا مع ظاهر الشريعة في مواضع التي وردت على سبب مثل الرمل في الأشواط الثلاثة في طواف القدوم فإن العلة قد زالت وهي أن الصحابة كانوا يرون الكفار قوتهم وجلدهم حتى بلغ الكفار أنهم سيقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب فلذلك أمرهم النبي A بالاضطباع والرمل في الأشواط الثلاثة تكذيبا لما توهمه قريش فيهم .
فاعلم أن من جمع العقل والبلوغ على مذهب الصوفية والفقهاء والمحدثين فهو مأمور بالوقوف في الصف الأول اتفاقا .
وسمعت سيدي عليا الخواص C يقول : لا ينبغي للشخص أن يبادر ويزاحم على الصف الأول إلا إن كان سالما من العيوب الباطنة التي لو اطلع الناس عليها لحقروه وأخروه فليتنبه المصلي لمثل ذلك فإن في الحديث [ [ صفوا كما تصف الملائكة عند ربها ] ] أي لا يتقدم صغير على كبير ولا مطرود على مقرب بالنظر لاختلاف المراتب واعتبار المشاهد وإلا فالحق تعالى قريب من كل أحد على أحد على حد سواء كما يعرف ذلك من انكشف حجابه لتنزيهه تعالى عن التحيز فكما لا يتقدم الملك الأصغر في الموقف على الأكبر فكذلك لا يتقدم مرتكب المعاصي ولو سرا على السالم منها ولو جهرا .
وتأمل يا أخي في المملكة الدنيوية لا يتقدم صغير في حضرة السلطان في موقف الكبير أبدا ولو أن شخصا من الصغار زاحم ودخل في غفلة مع نقباء الحضرة أخرجوه بعد ذلك وزجروه أشد الزجر .
وقد قال بعض أهل الكشف : إن ترتيب المملكة السماوية على ترتيب المملكة الأرضية حتى أن الملائكة التي تكتب الحسنات تكون على يمين الداخل للحضرة الإلهية وكاتب السيئات يكون على يسار الداخل لها كما في كاتب بيت الوالي وكاتب الجيوش فإن كاتب السيئات دائما يجلس على يسار الداخل ولو لم يقصد معلم الجيوش الآن ذلك لجهله بالحضرات السماوية .
وبالجملة فكل من العلماء والصوفية على هدى من ربهم فيما فهموا من الكتاب والسنة ولكن منهم المشدد ومنهم المخفف على الناس بحسب الأمر الغالب : { وكلا وعد الله الحسنى } ف { الحمد لله رب العالمين }