فيقول : لو كان الذي وقع منه سوء أدب لقطع الإمداد بكسر الهمزة - مصدر أمده أو بفتحها جمع مدد - أي ما يرد من بحر إفضال الواحد الصمد . وأوجب الإبعاد أي ب بعدي عنه . وإنما كان ذلك جهلاً من المريد لأنه قد يقطع المدد عنه من حيث لا يشعر ولو لم يكن من قطع المدد عنه إلا منع المزيد أي الزيادة من المدد لكان كافياً في قطعه . فجواب لو محذوف . وقد يقام - أي ذلك المريد - مقام أي في مقام البعد وهو لا يدري ولو لم يكن من إقامته في مقام البعد إلا أن يخليك - أيها العبد المسيء - وما تريد بأن يسلط نفسك عليك ويمنع نصرتك عليها لكان ذلك كافياُ في البعد . وفي هذا التفات من الغيبة إلى الحضور فإنه التفت إلى مخاطبة المريد كأنه حاضر بين يديه . ولعمري إنه يستحق هذا التصنيف . فإن قوله : ( لو كان هذا سوء أدب ) يشعر برضاه عن نفسه الذي يوجب الملام عليه فإن الرضا عن النفس لا يشأ عنه إلا كل ضير كما أن اتهامها وعدم الرضا عنها أصل كل خير . ومن إساءة الأدب مع أعص الناس ما ذكره المصنف بقوله : .
( 67 ) إذا رأيت عبداً أقامه الله تعالى بوجود الأوراد وأدامه عليها مع طول الإمداد فلا تستحقرن ما منحه مولاك لأنك لم تر عليه سيما العارفين ولا بهجة المحبين . فلولا وارد ما كان ورد .
اعلم أن عباد الله المخصوصين على قسمين : منهم من أقامه الحق بوجود الأوراد بأن أظهرها منه والمراد بها ما يقع بكسب العبد من أنواع العبادات الموظفة على الأوقات كصلاة وصيام وذكر ونحو ذلك . وهؤلاء هم العباد والزهاد الذين عملوا لرفع الدرجات في علي الجنات فعملوا لحظوظهم ولمن يمحضوا النظر إلى وجه ربهم . ومنهم من أخذوا عن حظوظهم ولم يطلبوا إلا وجه ربهم وهم العارفون والمحبون . فإذا رأيت عبداً من الفريق الأول أقامه الله بوجود الأوراد وأدامه عليها أي جعله مداوماً عليها مع طول الإمداد أي إدامة المعونة والتيسير فلا تستحقرن ما منحه أي أعطاه مولاه . وعلل الاستحقار بقوله : لأنك أي لكونك لم تر عليه سيما العارفين أي علامتهم .
ص 68 .
من ترك الحظوظ والإرادات ولا بهجة المحبين من الشغف بمرضاة محبو بهم من غير نظر إلى عليّ الجنات . ثم علل عدم الاستحقار بقوله : فلولا وارد أي تجل إلهي أورده الله على قلبه ما كان ورد أي عبادة فهو لم يخرج عن دائرة العناية ولم يبعد عن الملاحظة والرعاية . فلا تستقل ما منحه مولاه فإن كل فريق قام بحق المقام الذي أقامه الحق فيه وتولاه . كما قال المصنف : .
( 68 ) قوم أقامهم الحق لخدمته وقوم اختصهم بمحبته { كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاء وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا } ( 20 ) الإسراء .
أي قوم اختارهم الحق تعالى لخدمته حتى صلحوا لجنته وهم العابدون . وقوم اختصهم بمحبته حتى صلحوا لدخول حضرته وهم العارفون والمحبون . والكل منتسبون إلى خدمته لكن خدمة الأولين أكثرها بالجوارح والآخرين أكثرها بالقلوب على حسب ما يليق بكل من القسمة الأزلية التي منحها لهم علام الغيوب . كما قال تعالى : { كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاء وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا } ( 20 ) الإسراء أي ممنوعاً . فإذا شهد العبد انفراد الله تعالى بهذه الإقامة رجع عن الاحتقار فإن ذلك من الجهل بحكمة العزيز الغفار .
( 69 ) قلما تكون الواردات الإلهية إلا بغتة لئلا يدعيها العُبَّاد بوجود الاستعداد .
أي أن الواردات الإلهية التي هي الأسرار العرفانية يقل حصولها غير بغتة أي فجأة من غير استعداد لها بعبادة لئلا يدعيها العُبَّاد - بضم العين المهملة وشد الموحدة جمع عابد - بوجود الاستعداد لها . فإن تحف الله تعالى وهداياه مقدسة عن أن تعلل بالأعمال لأنها من مواهب الغني المفضال فحصولها بغير استعداد كثير وأما حصولها بالاستعداد فنزر يسير