ومما كتبه Bه لبعض إخوانه قوله : .
( إن كانت عين القلب تنظر إلى الله واحد في منته فالشريعة تقضي أنه لا بد من شكر خليقته ) .
أي إن كانت البصيرة التي هي عين القلب تنظر إلى أن الله تعالى واحد في منته أي عطيته بمعنى أنه المعطي في الحقيقة لا غيره فلا يستحق الشكر سواه فالشريعة أمرتنا أن نشكر أيضاً من وصلت النعمة على يده لما في الحديث : " أشكر الناس لله أشكرهم للناس " فعليك أن تنظر إلى الجهتين وتشكر الله حقيقة والخلق مجازاً امتثالاً لأمر خالقك فتكون في الحالين مجازاً ثم بين أن الناس في حال ورود النعمة عليهم من أحد العبيد أقسام بقوله : ( وإن الناس في ذلك على ثلاثة أقسام : غافل منهمك في غفلته قويت دائرة حسه وانطمست حضرة قدسه فنظر الإحسان من المخلوقين ولم يشهده من رب .
ص 186 .
العالمين إما اعتقاداً فشركه جلي وإما استناداً فشركه خفي ) .
يعني أن من قويت دائرة حسه من العامة لتعلقه بالأكوان وانطمست حضرة قدسه أي طهره والمراد عين بصيرته فأبعدته عن المكون عليّ الشان إذا اعتقد أن المؤثر والمعطي هو العبد فشركه ظاهر جلي يخرجه من ربقة الإيمان وإذا نسب ذلك إلى العبد استناداً فذلك شركه خفي لكونه أشرك مع الله غيره ففي إيمانه نقصان لقوله : لولا فلان تسبب لي في هذا الأمر ما وصل لي من الله والتوحيد الخالص أن يعتقد أن العبد مقهور وأن الموصل له إنما هو مولاه ثم أشار إلى القسم الثاني بقوله : .
( وصاحب الحقيقة غاب عن الخلق بشهود الملك الحق وفني عن الأسباب بشهود مسبب الأسباب فهو عبد مواجه بالحقيقة ظاهر عليه سناها سالك للطريقة قد استولى على مداها غير أنه غريق الأنوار مطموس الآثار قد غلب سكره على صحوه وجمعه على فرقه وفناؤه على بقائه وغيبته على حضوره ) .
يعني أن صاحب الحقيقة غلب عليه سناها - بالقصر - أي ضياؤها وسلك طريقة القوم واستولى على مداها أي نهايتها لا ينظر الأسباب لشهوده مسبب الأسباب فهو من الخواص لكنه وإن كان كاملاً بالنسبة لأهل الغفلة ناقص بالنسبة لخواص الخواص الذين جمعوا بين الأمرين وهم أهل المعرفة ولذا قال المصنف : غير أنه غريق الأنوار أي غريق في بحار التوحيد مطموس الآثار أي مطموسة بصيرته عن النظر إلى الآثار والعبيد قد غلب سكره وهو عدم إحساسه بالآثار على صحوه وهو إحساسه بها وجمعه وهو رؤية الحق وحده على فرقه وهو رؤية الحق والخلق فهو في مقام الجمع لا في مقام الفرق وقد اتضح لك مما هنا ومما تقدم الفرق ومعاني باقي الألفاظ ترجع إلى هذا ثم أشار إلى القسم الثالث بقوله : .
( وأكمل منه عبد شرب فازداد صحواً وغاب فازداد حضوراً فلا جمعه يحجبه عن فرقه ولا فرقه يحجبه عن جمعه ولا فناؤه عن بقائه ولا بقاؤه .
ص 187 .
يصده عن فنائه يعطي كل ذي قسط قسطه ويوفي كل ذي حق حقه .
وهذا حال خواص الخواص فإن من شرب من كؤوس التوحيد فازداد صحواً بعد سكره وغاب عن الخلق فازداد حضوراً معهم بربه قد شرب بالكأسين وجمع بين المزيتين فباطنه مكمل بالحقيقة وظاهره مجمل بالشريعة فيشكر الخلق والحق لا يغيب عن الحق في حال مخالطة الخلق ليعطي كل ذي قسط قسطه - بكسر القاف - أي : نصيبه وعطف ما بعده عليه للتفسير ومن أهل هذا المقام الصديق الأكبر بطريق الوراثة عن النبي الأطهر كما قال المصنف : .
( وقد قال أبو بكر الصديق Bه لعائشة Bها لما نزلت براءتها من الإفك على لسان رسول الله A : يا عائشة اشكري رسول الله A فقالت : والله لا أشكر إلا الله دلها أبو بكر Bه على المقام الأكمل مقام البقاء المقتضي لإثبات الآثار وقد قال الله تعالى : { أن اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } ( 14 ) لقمان . وقال A : " لا يشكر الله من لا يشكر الناس " . وكانت هي في .
ص 188 .
ذلك الوقت مصطلمة عن شاهدها غائبة عن الآثار فلم تشهد إلا الواحد القهار ) .
يعني أن أبا بكر الصديق كان في مقام الفرق الذي هو أعلى من مقام عائشة إذ ذاك فإنها كانت في مقام الجمع لأنها كانت مصطلمة أي فانية عن شاهدها وهو حكم بشريتها ويفسره قوله غائبة عن الآثار بل ترقت عنه إلى مقام القهار ولم يكن هذا الحال لازماً لها في جميع أوقاتها بل ترقت عنه إلى مقام الفرق كأبيها . والإفك : هو الكذب عليها وإن أردت تفصيل هذه القصة فعليك بشرحنا على مختصر الإمام ابن أبي جمرة وفيه أن الذي قال لها ذلك أمها ولعل القول صدر منهما معاً ليحصل الجمع بين الروايتين .
ص 189 .
ولما سئل Bه عن قوله A : " وجعلت قرة عيني في الصلاة " هل ذلك خاص به A أو لغيره منه نصيب ؟ أجاب بقوله : .
( إن قرة العين بالشهود على قدر المعرفة بالمشهود فالرسول A ليس معرفة كمعرفته فليس قرة عين كقرته وإنما قلنا إن قرة عينه في صلاته بشهوده جلال مشهوده لأنه قد أشار إلى ذلك بقوله في الصلاة ولم يقل بالصلاة إذ هو صلوات الله عليه وسلامه لا تقر عينه بغير ربه وكيف وهو يدل على هذا المقام ويأمر به من سواه بقوله A : " اعبد الله كأنك تراه " ومحال أن يراه ويشهد معه سواه فإن قال قائل قد تكون قرة العين بالصلاة لأنها فضل من الله وبارزة من عين .
ص 190 .
منة الله فكيف لا يفرح بها ؟ وكيف لا تكون قرة العين بها ؟ وقد قال سبحانه : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا } ( 58 ) يونس الآية فاعلم أن الآية قد أومأت إلى الجواب لمن تدبر سر الخطاب إذ قال فبذلك فليفرحوا وما قال فبذلك فافرح يا محمد قل لهم فليفرحوا بالإحسان والتفضل وليكن فرحك أنت بالمتفضل كما قال في الآية الأخرى : { قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } ( 91 ) الأنعام ) .
قرة العين - بضم القاف وتشديد الراء - عبارة عن كمال الفرح والسرور ويختلف ذلك باختلاف الناس قوة وضعفاً على حسب معرفتهم بمعبودهم الذي يناجونه في صلاتهم و معلوم أن أكمل الناس في معرفة سيد الأولين و الآخرين فلذلك لم تكن قرة عين كقرته من الناس أجمعين وكانت قرة عينه A في الصلاة بربه لا بالصلاة لأن ذلك هو المقام الأكمل .
وأما من كانت قرة عينه بالصلاة نظراً لكونها من الفضل فمقامه أنزل ولا يليق به A وبمن كان على قدمه من خواص أتباعه إلا أكمل الحالات . أسأل الله بجاهه العظيم أن يوصلنا إلى رفيع الدرجات