كالشموس على وجودك الشبيه بالليل المظلم لما فيه من الأوصاف الدنيئة فتغلب عليها وتظهر خصوصيتك فتكون غنياً بالله بعد أن كنت فقيراً وقادراً بالله بعد أن كنت عاجزاً وعالماً به بعد أن كنت جاهلاً إلى غير ذلك .
وتارة يقبض ذلك عنك فيردك إلى حدودك من الفقر والعجز والجهل فلا تظهر خصوصيتك .
فالنهار الذي هو الخصوصيات التي ظهرت عليك ليس منك وإليك - أي ليس من أوصافك الذاتية - ولكنه وارد عليك من إشراق شموس أوصافه القدسية .
ثم اعلم أن القبض المذكور ليس سلباً بل هو تنبيه للقاصرين على أن الأمر كله لله ليس لهم منه شيء . ولذا ترى بعض الأولياء في بعض الأحيان عنده قوة بطش وفي بعضها يكون عاجزاً .
وهذا لا يعارض قوله السابق : ولم تأفل أنوار القلوب والسرائر لأن ما تقدم شمس المعارف وهي لم تأفل . وما هنا ظهور الخصوصية بتبديل صفات البشرية من الفقر وما معه فإنها تارة تتبدل وتارة لا ليعطي الكامل في العبودية كل وقت حقه .
( 250 ) دل بوجود آثاره على وجود أسمائه وبوجود أسمائه على ثبوت أوصافه وبثبوت أوصافه على وجود ذاته إذا محال أن يقوم الوصف بنفسه . فأرباب الجذب يكشف لهم عن كمال ذاته ثم يردهم إلى شهود صفاته ثم يرجعه إلى التعلق بأسمائه ثم يردهم إلى شهود آثاره . والسالكون على عكس هذا فنهاية السالكين بداية المجذوبين وبداية السالكين نهاية المجذوبين . لكن لا بمعنى واحد فربما التقيا في الطريق هذا في ترقيه وهذا في تدليه .
ص 169 .
يعني أنه سبحانه دل بوجود آثاره - أي مصنوعاته - على وجود أسمائه إذ لا يصدر هذا الصنع القويم إلا من قادر مريد عليم . وبوجود أسمائه على ثبوت أوصافه من القدرة والإرادة والعلم وبثبوت أوصافه على وجود ذاته . وعلل ذلك بقوله : إذ محال أن يقوم الوصف بنفسه لأن المعنى لا يقوم بالمعنى .
ثم إن عباد الله المختصين بالقرب منه والوصول إليه قسمان : أرباب جذب وأرباب سلوك فأرباب الجذب الذين اختطفتهم يد العناية يكشف لهم أولاً عن كمال ذاته - أي عن ذاته الكاملة - بأن يزيد في قوة معرفتهم حتى يروا ذاته المقدسة بعين بصيرتهم ثم يردهم إلى شهود صفاته فيشاهدون بنور المعرفة ارتباطها بالذات ثم يرجعهم إلى التعلق بأسمائه بأن يشاهدوا بالذوق تعلقها بالآثار ثم يردهم إلى شهود آثاره - أي صدورها عن الأسماء - وهؤلاء هم الذين يستدلون بالمؤثر على الأثر ويقولون ما رأينا شيئاً إلا ورأينا الله قبله .
وأما السالكون فهم على عكس هذا لأنهم يستدلون بالأثر على المؤثر فأول ما يظهر لهم الآثار فيستدلون بها على الأسماء وبها على الصفات وبها على كمال الذات وهم الذين يقولون ما رأينا شيئاً إلا ورأينا الله بعده . فنهاية السالكين من شهود الذات المقدسة بداية المجذوبين وبداية السالكين من التعلق بالآثار نهاية المجذوبين . لكن لا بمعنى واحد : فإن مراد السالكين شهود الأشياء لله ومراد المجذوبين شهود الأشياء بالله فالسالكون على تحقيق الفناء والمحو والمجذوبون مسلوك بهم طريق البقاء والصحو فربما التقيا في الطريق - أي في منزل من المنازل - كشهود الصفات .
هذا أي السالك في ترقيه من الخلق إلى الحق وهذا أي المجذوب في تدليه من الحق إلى الخلق .
( 251 ) لا يعلم قدر أنوار القلوب والأسرار إلا في غيب الملكوت كما لا تظهر أنوار السماء إلا في شهادة الملك .
أي لا يعرف قدر أنوار والأسرار التي أشرقت على القلوب من سماء .
ص 170 .
التوحيد والمعرفة إلا في غيب الملكوت - وهو عالم الآخرة - . فمن كان قوي الإيمان كان له هنالك أعظم منازل الامتنان ومن كان إيمانه بالغيب أكمل كان نوره وما يترتب عليه أتم وأشمل . كما أن أنوار السماء - وهي أن أنوار الكواكب - لا تظهر إلا في شهادة الملك - أي الملك المشاهد وهو عالم الدنيا - لحصول المناسبة بين هذه الأشياء فإن نور الإيمان ليس له أفول فيناسبه الدار الباقية وأنوار الكواكب تأفل فيناسبها الدار الفانية .
( 252 ) وجدان ثمرات الطاعات عاجلاً بشائر العاملين بوجود الجزاء عليها آجلاً .
يعني أن ما يجده العاملون من ثمرات الطاعات كزيادة إشراق أنوار اليقين في قلوبهم والتلذذ بها عند مناجاة ربهم بشائر لهم بقبولها ووجود الجزاء عليها في الدار الآخرة وإن لم يقصدوه بطاعتهم فإن الأكمل عدم قصد ذلك كما قال المصنف : .
( 253 ) كيف تطلب العوض على عمل هو متصدق به عليك ؟ أم كيف تطلب الجزاء على صدق هو مهديه إليك ؟ .
يعني أن طلبك العوض على عمل هو في الحقيقة له تعالى لقوله سبحانه : { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } ( 96 ) الصافات مما يتعجب منه لأنه سبحانه متصدق به عليك