لئن بقيت في العين مني قطرة فإني إذاً في العاشقين ذليل .
وقوله : ( ليس المحب ) أي الحقيقي ( من تبذل له ) لأن المحبة الحقيقية أخذ خصال المحبوب لحبة قلب المحب فلا يكون عنده التفات لغير محبوبه . فمن عبده تعالى لجنته فليس محباً له بل للجنة . كما قال بعضهم : .
وما أنا بالباغي عن الحب رشوة ضعيف هوى يرجو عليه ثواباً .
( 244 ) لولا ميادين النفوس ما تحقق سير السائرين إذ لا مسافة بينك وبينه حتى تطويها رحلتك ولا قطعة بينك وبينه حتى تمحوها وصلتك .
يعني لولا شهوات النفوس ومألوفاتها التي تخوض فيها وتتعشقها كما تخوض الفرسان في الميادين الواسعة التي تجول فيها الخيل ما تحقق سير السائرين أي ما تصور سير من أي مريد . فإن الله تعالى أقرب إليه من حبل الوريد ولو تطهرت النفوس لعلمت أنها في حضرة القدوس . فالسير إلى الله إنما هو قطع عقبات نفسك . فإن البعد منسوب إليك لا إلى ربك إذ لا مسافة حسية بينك وبينه تقطعها رحلتك لأنها لا تكون إلا بين متماثلين . ولا قطعة بضم القاف أي لا مقاطعة توجب البعد المعنوي بينك وبينه حتى تمحوها وصلتك لأن ذلك لا يكون إلا بين متعاديين وأين أنت من معاداة ربك . فليس ثم حجاب يمنع وصولك غير نفسك ولا يزول ذلك الحجاب إلا بإماتتها وتطهيرها من كل ما يغضب رب الأرباب ولا يكون ذلك في الغالب إلا بتسليمها لشيخ عارف بما لها من الأحوال فإنك تصل بالانقياد إليه إلى أعلى مراتب الكمال .
( 245 ) جعلك في العالم المتوسط بين ملكه وملكوته ليعلمك جلالة قدرك بين مخلوقاته وأنك جوهرة تنطوي عليك أصداف مكوناته .
أي جعلك أيها الإنسان عالماً متوسطاً بين ملكه - بضم الميم - وهو عالم .
ص 164 .
الشهادة وملكوته وهو عالم الغيب . ولم يجعلك ملكياً محضاً ولا ملكوتياً محضاً بل جعل فيك من عالم الملك جسمك ومن عالم الملكوت روحك وسرك ليعلمك جلالة قدرك بين مخلوقاته حيث جمعت بين الظاهر والباطن وبين الجسمانيات والروحانيات ففيك انطوى العالم الأكبر . ومتى تدبرت ذلك علمت أنك جوهرة نفيسة تنطوي أي تحتوي عليك للخدمة والحفظ مكوناته التي هل لك كالأصداف المحيطة بالجوهرة . فإن الله تعالى سخر لك جميع مخلوقاته لنفعك كما قال تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } ( 13 ) الجاثية فينبغي لك أن ترفع همتك عن الأكوان وتشتغل بعبادة الكريم المنان فإنه يقبح منك أن تخدم الخدم وتترك عبادة مولي النعم .
وفي بعض الكتب المنزلة : يا ابن آدم خلقت الأشياء كلها من أجلك وخلقتك من أجلي فلا تشتغل بما هو لك عمن أنت له . وقد بين العلامة الشرقاوي انطواء العوالم في الإنسان بقوله : ففيه من صفات الملائكة العقل والمعرفة والعبادة . ومن صفات الشيطان الإغواء والتمرد والطغيان . ومن صفات الحيوانات أنه في حالة الغضب يكون أسداً وفي حالة غلبة الشهوة يكون خنزيراً لا يبالي أين يلقي نفسه في حالة الحرص على الدنيا والشره يكون كلباً وفي حالة الاحتيال والخداع يكون ذئباً . ومن صفات النبات والأشجار أنه يكون في مبدئه غصناً طرياً مترعرعاً وفي آخره يابساً أسود . ومن صفات السماء أنه محل الأسرار والأنوار ومجمع الملائكة . ومن صفات الأرض أنه محل لبنات الأخلاق والطباع ومنه اللين والخشن . ومن صفات العرش أن قلبه محل التجلي . واللوح أنه خزانة العلوم . والقلم أنه ضابط لها . والجنة إنه إذا حسنت أخلاقه تنعم به جليسه . والنار أنه إذا قبحت أخلاقه احترق به جليسه .
ص 165 .
( 246 ) إنما وسعك الكون من حيث جثمانيتك ولم يسعك من حيث ثبوت روحانيتك .
يعني أنك مناسب للكون - أي العالم السفلي وهو الأرض - من حيث جثمانيتك - بضم الجيم وسكون المثلثة - أي جسمك فقط فلذا وسعك لأن جسمك بعض الكون وله فيه مصالح .
وأما روحك فلا تصلح أن تتعلق بالكون لعدم وجود مصالحها فيه وإنما تصلح للتعلق بمكون الأكوان فلذا لم يسعك الكون من حيث ثبوت روحانيتك . فينبغي السعي في تكمينها بإخراجها عن مألوفات بشريتك حتى تصلح للتعلق برب البرية فترقى بمعراج كمالاتها إلى الحضرة القدسية .
فنظرك إلى الأكوان يحطك إلى أسفل سافلين ونظرك إلى المكون يرفعك إلى أعلى عليين . فاختر لنفسك ما يحلو .
( 247 ) الكائن في الكون ولم تفتح له ميادين الغيوب مسجون بمحياطاته ومحصور في هيكل ذاته .
يعني أن من وجد في الدنيا ولم تفتح له خزائن العلوم والمعارف الغيبية الشبيهة بالميادين حتى يستنير بها قلبه ويشاهد أسرار رب العالمين فهو مسجون بمحيطاته - أي بشهواته المحيطة به - ومحصور في هيكل ذاته - أي في هيكل هو ذاته النفسانية - والمراد شهواتها . فهو مرادف لما قبله .
وأما من طهر نفسه من الشهوات وتخلص من سجن الرعونات فقد وصل إلى أعلى درجات السعادة وفتحت له ميادين الغيوب من عالم الغيب والشهادة .
وفي بعض الآثار المروية عن الله D : عبدي اجعلني مكان همك