( 218 ) كيف يحتجب الحق بشيء ؟ والذي يحتجب به هو فيه ظاهر وموجود حاضر .
هذا كقوله فيما تقدم ( كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الظاهر في كل شيء ) يعني : أنه سبحانه في كل شيء ظاهر لأن به تعالى قام كل شيء فأهل البصائر يشاهدون أنه في كل موجود حاضر فكيف يكون ما هو ظاهر فيه حجاباً له حتى يستدل به عليه ؟ وما ذاك إلا من عمى البصيرة وعدم الوصول بأنوار معرفته إليه .
( 219 ) لا تيأس من قبول عمل لم تجد فيه وجود الحضور فربما قبل من العمل ما لم تدرك ثمرته عاجلاً .
أي : إذا لم تجد العلامة على قبول العمل - التي هي حضور قلبك فيه مع الله تعالى بأن تلاحظ أنك حاضر بين يديه - فلا تيأس من قبوله فإنها علامة غير مطردة لأنه ربما قبل من العمل ما لم تدرك ثمرته أي علامة قبوله عاجلاً . وإنما الشرط في القبول والإخلاص أي : قصد وجه الله بالعمل .
وأما الحضور بالقلب واستلذاذه بالطاعة ووجدان حلاوتهما فهي علامات لا شروط .
( 220 ) لا تزكين وارداً لا تعلم ثمرته فليس المراد من السحابة الأمطار وإنما المراد منها وجود الأثمار .
هذا رجوع منه للكلام على الوارد يعني : إذا ورد عليك - أيها المريد - وارد فلا تزكينه أي : لا تمدحنه ولا تفرح به حتى تعرف ثمرته وتتحقق بها وهي تأثر القلب به وتبدل صفاته المذمومة بصفات محمودة فتنشط الجوارح للأعمال وتقوم بخدمة ذي العزة والجلال . فليس المراد من السحابة الأمطار بل ما ينشأ عن المطر من وجود الأثمار . فكذلك الوارد إذا لم تحصل ثمرته تكون .
ص 146 .
تزكيته نوعاً من الاغترار لأنه حينئذ يكون مدحه لحظ النفس فيه من العلم الذي لم يحصل به للقلب استبصار .
( 221 ) لا تطلبن بقاء الواردات بعد أن بسطت أنوارها وأودعت أسرارها . فلك في الله غنى عن كل شيء وليس يغنيك عنه شيء .
أي لا تطلبن بقاء التجليات والأحوال التي وردت على قلبك بعد أن بسطت عليه أنوارها فتكيف ظاهرك وباطنك بكيفيات العبودية وأودعته أسرارها استغناء عنها بالملك المعبود .
كما قال بعض أهل الشهود : .
لكل شيء إذا فارقته عوض وليس لله أن فارقت من عوض .
فإن الركون إلى الوارد قادح في إخلاص التوحيد لأنه من الأغيار الشاملة للأنوار والمقامات والأحوال . فكن عبداً للعزيز الحميد فإنه إنما أدخلك في .
ص 147 .
الحال لتأخذ منها لا لتأخذ منك لأنه وجهها إليك باسمة باسمه المبدئ فأبداها حتى إذا أدت ما كان لك فيها أعادها باسمه المعيد وتوفاها . ثم علل ذلك بقوله : .
( 222 ) تطلعك إلى بقاء غيره دليل على عدم وجدانك له واستيحاشك لفقدان ما سواه .
دليل على عدم وصلتك به .
يعني : أن تطلعك وتشوفك إلى بقاء غيره تعالى من الواردات المذكورة وغيرها من المقامات والأحوال والنعم الظاهرية والباطنية دليل على عدم وجدانك له تعالى إذ لو وجدته في قلبك لم تطلب بقاء غيره ولو وصلت إليه لم تستوحش عند فقد شيء سواه فإنه غاية المطالب ومنتهى الآمال والمآرب . كما قال بعض العارفين : .
كانت لقلبي أهواء مفرقة فاستجمعت إذ رأتك العين أهوائي .
فصار يحسدني من كنت أحسده وصرت مولى الورى مذ صرت مولاي .
تركت للناس دنياهم ودينهم شغلاً بذكرك يا ديني ودنياي .
( 223 ) النعيم وإن تنوعت مظاهره إنما هو بشهوده واقترابه والعذاب وإن تنوعت مظاهره إنما هو بوجود حجابه فسبب العذاب وجود الحجاب وإتمام النعيم بالنظر إلى وجهه الكريم .
يعني أن النعيم وإن تنوعت مظاهره التي يظهر فيها من المطاعم والملابس ونحوها في هذه الدار وفي تلك الدار إنما هو بشهوده تعالى بالبصيرة في الدنيا والبصر في الآخرة واقترابه سبحانه من العبد قرباً معنوياً . وأما إذا لم يكن شهود واقتراب كان ذلك النعيم في الحقيقة عين العذاب فإن العذاب وإن تنوعت مظاهره التي يظهر فيها من أنواع العقوبات : كحميم وزقوم وسلاسل وأغلال إنما هو بسبب احتجاب العبد عن ذي العزة والجلال وأما عند مشاهدته فليس ذلك بعذاب . وقد وضح ذلك بقوله : فسبب العذاب وجود الحجاب أي لا تلك المظاهر لذاتها ولذلك لم تكن النار عذاباً على الملائكة الموكلين بها . ويلوح لهذا المعنى قوله تعالى : { كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ } ( 15 ) ( 16 ) المطففين