العميم مع علمه بعيبك وليس ذلك إلا مولاك الكريم . وخير صاحب لك من يطلبك ويعتني بك لا لشيء يعود منك إليه وليس ذلك إلا مولاك الحليم فاجعل توكلك عليه . ومقصوده الحث على مجانبة الخلائق والرضا بصحبة المحسن الخالق . كما قال بعضهم : .
خذ عن الناس جانبا وارض بالله صاحبا .
قلب الناس كيف شئ ت تجدهم عقاربا .
نعم : صحبة من يدل على أمر محمود من حيث كونه يقرب العبد إلى مولاه .
( 136 ) لو أشرق لك نور اليقين لرأيت الآخرة أقرب إليك من أن ترحل إليها ولرأيت محاسن الدنيا قد ظهرت كسفة الفناء عليها .
أي لو أشرق لك - أيها المريد - نور اليقين الذي به تحق الحق وتبطل الباطل لرأيت الآخرة حاضرة لديك لأنها حق فتكون أقرب إليك من أن ترحل إليها . ولرأيت أي أبصرت محاسن الدنيا الحاضرة لديك قد ظهرت كسفة الفناء عليها أي الفناء الشبيه بالكسفة - بكسر الكاف - وهي القطعة التي تغطي الشيء أو بفتحها أي الكسوف والتغيير لأنها باطلة فيوجب لك هذا النظر اليقيني الزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة .
( 137 ) ما حجبك عن الله وجود موجود معه ولكن حجبك عنه توهم موجود معه .
أي ما حجبك - أيها المريد - المحجوب عن الله تعالى وجود موجود من الأكوان الدنيوية أو الأخروية معه إذ لا وجود في الحقيقة لما سواه . كما قال بعض العارفين : .
ص 107 .
الله قل وذر الوجود وما حوى إن كنت مرتاداً بلوغ كمال .
فالكل دون الله أن حققته عدم على التفصيل والإجمال .
واعلم بأنك والعوالم كلها لولاه في محو وفي اضمحلال .
من لا وجود لذاته من ذاته فوجوده لولاه عين محال .
والعارفون بربهم لم يشهدوا شيئاً سوى المتكبر المتعال .
ورأوا سواه على الحقيقة هالكاً في الحال والماضي والاستقبال .
ولكن حجبك عنه تعالى توهم موجود معه أي توهمك أن ما سواه له وجود . والتوهمات باطلة لا حقيقة لها فلا حاجب لك عن الله تعالى . فإن وجود الآثار كوجود الظلال فمن شهد ظلية الآثار لم يحصل له عائق عن الله . فإن ظلال الأشجار في الأنهار لا تعوق السفن عن التسيار . ولو كان بينك وبين الله حجاب وجودي للزم أن يكون أقرب إليك منه ولا شيء أقرب من الله . فالحجاب حينئذ أمر توهمي بلا اشتباه .
( 138 ) لولا ظهوره في المكونات ما وقع عليهم وجود إبصار . لو ظهرت صفاته اضمحلت مكوناته .
أي لولا تجليه سبحانه وتعالى من وراء حجاب المكونات أي من وراء حجاب هو هي ما وقع عليها إبصار أي ما وجدت فلا يقع عليها إبصار . ولو تجلى التجلي الحقيقي الذي لا خفاء معه لاضمحلت وتلاشت بدليل قوله تعالى : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقَاً } ( 143 ) الأعراف . كما وضح ذلك بقوله : لو ظهرت صفاته اضمحلت مكوناته لأنه لا ارتباط بين .
ص 108 .
القديم والحادث . فظهوره سبحانه من وراء حجاب المكونات هو الذي أوجب ظهورها .
( 139 ) أظهر كل شيء لأنه الباطن وطوى وجود كل شيء لأنه الظاهر .
يعني : أن مقتضى اسمه تعالى الباطن أن لا يشاركه في البطون شيء فلذا أظهر كل شيء أي جعل الأشياء كلها ظاهرة ولا باطن فيها غيره ومقتضى اسمه تعالى الظاهر أن لا يشاركه في الظهور شيء فلذا طوى وجود كل شيء أي لم يجعل لغيره وجوداً من ذاته بل المكونات جمعيها في الحقيقة عدم محض لأنه لا وجود لها إلا من وجوده . فالحق تعالى هو الموجود بكل اعتبار لأنه الظاهر من جهة التعريف الباطن من جهة التكييف .
( 140 ) أباح لك أن تنظر ما في المكونات وما أذن لك أن تقف مع ذوات المكونات { قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ } ( 101 ) يونس . فتح لك باب الأفهام ولم يقل انظروا السماوات لئلا يدلك على وجود الأجرام .
يعني : أمرك الله تعالى أن تنظر ما في المكونات من آثار قدرته وبدائع صنعته لتستدل بذلك على آثار الأسماء والصفات . وما أذن لك أن تقف مع ذوات المكونات فإنه سبحانه ما نصب لك الكائنات لتراها بل لترى فيها مولاها . كما قيل في ذلك : .
ما أبينت لك العوالم إلا لتراها بعين من لا يراها .
فارق عنها رقي من ليس يرضى حالة دون أن يرى مولاها .
فقوله سبحانه : { انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ } ب ( في الظرفية ) المشعرة بأن الاعتبار بالمظروف دون الظرف فتح لك - أيها المريد - باب الأفهام فتفهم