العارف والمراد بها العلوم والمعارف إنما يكون على حسب صفاء الأسرار من كدر التعلق بالأغيار والآثار . وهذه الحكمة إثبات للشريعة من حيث الأخذ بالأسباب . وأما قوله : قلما تكون الواردات الإلهية إلا بغتة فتحقيق للحقيقة فلا تنافي بلا ارتياب .
( 114 ) الغافل إذا أصبح ينظر ماذا يفعل والعاقل ينظر ماذا يفعل الله به .
يعني : أن الغافل عن الله تعالى إذا أصبح فأول خاطر يرد عليه نسبة الفعل إلى نفسه فيقول : ماذا أفعل اليوم ؟ فهو جدير بأن يكله الله تعالى إلى نفسه . وأما العاقل فأول خاطر يرد عليه نسبة الفعل إلى الله تعالى فيقول : ماذا يفعل الله بي ؟ وذلك لدوام يقظته فهو جدير بأن يوفقه الله لأحسن الأعمال ويرشده لأصلح الأحوال . فأول خاطر يرد على العبد هو ميزان توحيده ولذا قال بعضهم من اهتدى إلى الحق لم يهتد إلى نفسه ومن اهتدى إلى نفسه لم يهتد إلى الله . فانظر إذا استقبلك شغل فإن عاد قلبك في أول وهلة إلى حولك وقوتك فأنت المنقطع عن الله وإن عاد قلبك في إلى الله سبحانه فأنت الواصل إليه . وقد كان سيدي عمر بن عبد العزيز يقول : أصبحت ومالي سرور إلا في مواقع القدر . وليكن من دعاء صاحب هذا المقام : اللهم إني أصبحت لا أملك لنفسي ضراً .
ص 94 .
ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً ولا أستطيع أن آخذ إلا ما أعطيتني ولا أتقي إلا ما وقيتني الله وفقني لما تحبه وترضاه من القول والعمل في طاعتك إنك ذو الفضل العظيم .
( 115 ) إنما يستوحش العباد والزهاد من كل شيء لغيبتهم عن الله في كل شيء فلو شهدوه في كل شيء لم يستوحشوا من شيء .
أي إنما يستوحش العباد - بضم العين جمع عابد - والزهاد - جمع زاهد - أي ينفرون من كل شيء يقطعهم عن الله بغيبتهم عن الله في كل شيء لكونهم محجوبين عنه تعالى برؤية أنفسهم ومراعاة حظوظهم . فإن الزهد في المزهود شاهد له بالوجود ولذا فروا من الأشياء واستوحشوا منها مخافة أن تفوت عليهم مقاصدهم لميلهم إليها وافتتانهم بها فلو شهدوه في كل شيء كما شهده العارفون والمحبون لم يستوحشوا من شيء لرؤيتهم له حينئذ ظاهراً في الأشياء كلها لأنهم يستدلون به عليها فيكون في ذلك من قرة أعينهم ما يشغلهم عن رؤيتهم لنفوسهم فلا يكون لهم من الأشياء وحشة ولا يخشون منها فتنة لأنها فانية متلاشية بهذا الاعتبار . جعلنا الله من أهل محبته إنه كريم غفار .
( 116 ) أمرك في هذا الدار بالنظر في مكوناته وسيكشف لك في تلك الدار عن كمال ذاته .
يعني : أمرك مولاك - أيها المريد - في هذه الدار الدنيا بالنظر في مكوناته - بتشديد الواو المفتوحة - أي أكوانه لتراه بنور بصيرتك ظاهراً فيها من وراء حجاب هو هي وسيكشف لك مع عامة المؤمنين في تلك الدار الآخرة عن كمال ذاته فتراه بعين البصر . فإن رؤيته تعالى من الأمر الجائز كما قال اللقاني :