تارة تكون بعين المطلوب وتارة تكون بغيره عاجلاً أو آجلاً { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ } ( 68 ) القصص .
( 103 ) العارف لا يزول اضطراره ولا يكون مع غير الله قراره .
يعني : أن العارف بالله لا يزول اضطراره وافتقاره إلى مولاه فإنه يقدر معرفته لنفسه بالذل والافتقار يعرف ربه بالعز والعظمة والاقتدار . وأما غير العارف من العامة فإن اضطرارهم إنما يكون عند مثيرات الأسباب من الفقر والمرض ونحو ذلك لغلبة دائرة الحس على مشهدهم ومتى زالت زال اضطرارهم فلو شهدوا قبضة الله الشاملة المحيطة لعلموا أن اضطرارهم إلى الله تعالى دائم . ومن أوصاف العارف أيضاً أنه لا يكون مع غير الله قراره لوجود وحشته من المخلوقات فلا يأنس إلى ببارئ الأرض والسماوات .
( 104 ) أثار الظواهر بأنوار آثاره وأنار السرائر بأنوار أوصافه لأجل ذلك أفلت أنوار الظواهر ولم تأفل أنوار القلوب والسرائر ولذلك قيل : .
إن شمس النهار تغرب باللي ل وشمس القلوب ليست تغيب .
يعني : أنه سبحانه أنار الظواهر أي المكونات بأنوار الكواكب والشمس والقمر التي هي آثار قدرته فنرى المكونات بذلك النور ونأخذ منها ما ينفع ونحترز عما يضر . وأنار السرائر أي بواطن قلوب العارفين بأنوار أوصافه أي بالعلوم العرفانية والأسرار الربانية لأجل ذلك أفلت أي غابت أنوار الظواهر .
ص 87 .
فيذهب نور الشمس في الليل ونور القمر في النهار لكونها ناشئة عن الحادث . ولم تأفُل - بضم الفاء - أي لم تغب أنوار القلوب والسرائر لكونها ناشئة عن الصفات القديمة . وقد استشهد بالبيت على ما ذكره ومعناه واضح وفي هذا تنبيه على أن الأمور الباقية هي التي ينبغي أن يعتني بها بخلاف الأمور الفانية الآفلة فلا يعتني بالعلوم الظاهرية مثل ما يعتني بالعلوم الباطنية فإن الثانية لبقائها أولى بالاعتناء بها . وحينئذ يكون العبد على ملة إبراهيم عليه السلام حيث قال : { لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } ( 76 ) الأنعام . ومن اللطائف أن رجلاً سأل سهل بن عبد الله Bه عن القوت . فقال : هو الحي الذي لا يموت . فقال : إنما سألتك عن القوام . فقال : القوام هو العلم . فقال : سألتك عن الغذاء . فقال : الغذاء هو الذكر . فقال : إنما سألتك عن طعم الجسد . فقال : ما لك وللجسد دع من تولاه أولاً يتولاه آخراً . وما ألطف قول بعضهم : .
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته وتطلب الربح مما فيه خسران .
عليك بالروح فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان .
( 105 ) ليخفف ألم البلاء عنك علمك بأنه سبحانه هو المبلي لك فالذي واجهتك منه الأقدار هو الذي عودك حسن الاختيار .
هذه الحكمة تسلية للسالكين حتى يذوقوا منها مذاق العارفين . فإنه من عرف أن البلايا من مولاه وسيده الذي هو أرحم به من والدته ووالده كيف يبقى