الباب السابع ـ فيما تضمنه القرآن من أنواع إعجازه .
القرآن معجزة محمد عليه السلام : .
و القرآن أول معجز دعا به محمد صلى الله تعالى عليه و سلم إلى نبوته فصدع فيه برسالته و خص بإعجازه من جميع رسله و إن كان كلاما ملفوظا و قولا محفوظا لثلاثة أسباب صار بها من أخص إعجازه و أظهر آياته .
أحدها : أن معجز كل رسول موافق للأغلب من أحوال عصره و الشائع المنتشر في ناس دهره لأن موسى عليه السلام حين بعث في عصره السحرة خص من فلق البحر يبسا و قلب العصا حية بهر كل ساحر و أذل كل كافر و بعث عيسى عليه السلام في عصر الطب فخص من إبراء الزمنى و إحياء الموتى بما أدهش كل طبيب و أذهل كل لبيب و لما بعث محمد صلى الله تعالى عليه و سلم في عصر الفصاحة و البلاغة خص بالقرآن في إيجازه و إعجازه بما عجز عنه الفصحاء و أذعن له البلغاء وتبلد فيه الشعراء ليكون العجز عنه أقهر و التقصير فيه أظهر فصارت معجزاتهم و إن اختلف متشاكلة المعاني متفقة العلل .
و الثاني : أن المعجز في كل قوم بحسب أفهامهم و على قدر عقولهم و أذهانهم و كان في نبي إسرائيل من قوم موسى و عيسى بلادة و غباوة لأنه لم ينقل عنهم ما يدون من كلام مستحسن أو يستفاد من معنى مبتكر و قالوا لنبيهم حين مروا بقوم يعكفون على أصنام لهم : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة فظنوا أن الإعجاز بما يصلون إليه ببداية حواسهم .
و العرب أصح الناس أفهاما و أحدهم أذهانا قد ابتكروا من الفصاحة أبلغها و من المعاني أغربها و من الآداب أحسنها فخضوا من معجز القرآن بما تجول فيه أفهامهم و تصل إليه أذهانهم فيدركوه بالفطنة دون البديهة و بالروية دون البادرة لتكون كل أمة مخصوصة بما يشاكل طبعها و يوافق فهمها .
و الثالث : أن معجز القرآن أبقى على الأعصار و أنشر في الأقطار من معجز يختص بحاضره و يندرس بانقراض عصره و ما دام إعجازه فهو أحج و بالاختصاص أحق .
و جوه إعجاز القرآن : 1 ـ فصاحته .
و إعجاز القرآن في خروجه عن كلام البشر و إضافته إلى الله تعالى يكون من عشرين وجها : .
أحدها : فصاحته و بيانه : و ذلك معتبر بثلاثة شروط أحدها : بلاغة ألفاظه و الثاني : اسيفاء معانيه و الثالث : حسن نظمه فأما بلاغة ألفاظه فتكون من وجهين : أحدهما جزالتها حتى لا تلين .
و الثاني انطباعها حتى لا تخبو .
و أما استيفاء معانيه فيكون من وجهين : .
أحدهما : أن يكون المعنى لائحا في مبادي ألفاظه غير مفتقر إلى مقاطعه .
و الثاني : أن يكون المعنى مطابقا لألفاظه فلا يزيد عليها و لا يقصر عنه فإن زاد كان الاختلال في اللفظ و إن نقص كان الاختلال في المعنى .
و أما حسن نظمه فيكون من وجهين : أحدهما أن يكون الكلام متناسبا لا يتنافر و الثاني أن يكون الوزن معتدلا لا يتباين .
فإن قيل : قد يجتمع في كلام البشر ما يستكمل هذه الشروط فبطل به الإعجاز فالجواب عنه من وجهين : .
أحدهما : أن أسلوب نظمه على هذه الشروط معدوم في غيره فافترقا .
و الثاني : أن لنظم ألفاظه بهجة لاتوجد في غيره فاختلفا لأنك إذا جمعت بين قول الله تعالى : { ولكم في القصاص حياة } و بين قولهم [ القتل أنفى للقتل ] و جدت بينهما فروقا في اللفظ و المعنى .
2ـ - إيجازه : .
و الوجه الثاني من إعجازه إيجازه عن هذا الإكثار و استيفاء معانيه في قليل الكلام كقوله تعالى : { وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين } .
فإن قيل : ليس جميعه و جيزا مختصرا و فيه المبسوط و المكرر و بعضه أفصح من بعض و لو كان من عند الله لتماثل و لم يتفاضل لأن التفاضل في كلام من يكل خاطره و تضعف قريحته فعنه جوابان : .
أحدهما : أن اختلافه في البسط و الإيجاز ليس للعجز عن تماثله ولكن لاختلاف الناس في تصوره و فهمه و تفاضله في الفصاحة بحسب تفاضل معانيه لا للعجز عن تساويه .
و الثاني : أنه خالف بين مبسوطه و مختصره و بين أفصحه و أسهله ليكون العجز عن أسهله و أبسطه أبلغ في الإعجاز من العجز عن أفصحه و أخصره و لذلك فاضل بين خلقه ليعرف به فرق ما بين الفاضل و المفضول .
و قد حكى أبو عبيدة أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ : { فاصدع بما تؤمر } فسجد و قال : سجدت لفصاحة هذا الكلام .
فأما تكرار قصصه و تكرار وعده وو عيده فلأسباب مستفادة منها أنها في التكرار أوكد و في المبالغة أزيد و منها أنها تتغاير ألفاظها فتكون إلى القبوا أسرع و في الإعجاز أبلغ و منها أنها إن أخل بالوقوف عليها في موضع أدركها في غيره فلم يخل من رغب و رهب .
3ـ - علوم عن منظوم الكلام و منثوره : .
و الوجه الثالث من إعجازه : أن نظم أسلوبه و وصف اعتداله يخرج عن منظوم الكلام و منثوره و لا يدخل في شعر و لا رجز و لا سجعة و لا خطبة حتى تجاوز محصور أقسامه و باين سائر أنواعه بأسلوب لا يشاكل و نظم لا يماثل فصار و إن كان من حروف الكلام خارجا عن أقسام الكلام فقد قال أنيس الغفاري و هو أخو أبي ذر الغفاري و كان من الموصوفين بالتقدم في [ البلاغة و الفصاحة ] : عرضت القرآن على السجع و الشعر و النظم و النثر فلم يوافق شيئا من طرق كلام العرب .
و حكي عن الوليد بن المغيرة ـ و كان سيد عشيرته و أفصح قومه ـ أنه جاء إلى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم و هو على كفره فقال : اقرؤا علي شيئا من القرآن فقرؤا عليه .
فقال : ليس هذا من كلام البشر و ليس بشعر فمضى إليه أبو لهب قال : أفسدت قريشا بهذا القول فارجع عنه فقال : أقول إنه سحر .
و قد تعاطاه من الشعراء ما خرج عن أسلوبه إلى طريقة شعره فقال في قصة الفيل : .
( ألا من مهلك الفيل ... و من سار مع الفيل ) .
( بطير صبه الله ... عليهم من أبابيل ) .
( رمتهم بجناديل ... ترى من طين سجيل ) .
( فأضحى القوم في القاع ... كعصف غير مأكول ) .
فلم يساعده الطبع عليه مع أخذ معانيه و استعمال ألفاظه حتى عاد إلى مطبوع شعره .
و ضمن آخر من الشعراء شيئا منه في شعره فخرج عن أسلوبه حيث يقول : .
( و قرا معانا ليصدع قلبي ... و الهوى يصدع الفؤاد السقيما ) .
( أرأيت الذي يكذب بالدين ... فلذاك الذي يدع اليتيما ) .
فإن قيل : لو كان لنظم القرآن أسلوب معجز لما طلب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عند جمع القرآن من يأتيه بالآية و الآيتين شهودا أنه سمعه من رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم و لاكتفى بأسلوب نظمه عن بينة تشهد به و لكان لا يشتبه على ابن مسعود في المعوذتين حين أخرجهما من القرآن و لا على أبي بن كعب في القنوت حين أدخله في القرآن و لا على امرأة ابن رواحة في شعره حتى توهمته من القرآن فعنه جوابان : .
أحدهما : أن عمر التمس الشهادة في الآية و الآيتين مما لا يكون بانفرداه معجزا لأن الإعجاز مختص بما وقع به التحدي و أقل ما يقع به التحدي كأقصر سورة في القرآن آيات و حروفا و هي { سورة الكوثر } و ما قصر عنه لا إعجاز فيه فكان طلبه للشهادة متوجها إليه .
و الثاني : أنه طلب الشهادة على محلها من أي سورة هي و في أي موضع منها توضع و إن كان معلوم الأسلوب بالمباينة لأن الله تعالى كان يأمر بوضع ما أنزله فيما يراه من السور لقوله تعالى : { إن علينا جمعه وقرآنه } .
فأما ابن مسعود فلم يشكل عليه أسلوب المعوذتين أنهما من القرآن إنما حكمهما من مصحفه لأنه ظن أن تلاوتهما قد نسخت .
و أما أبي بن كعب فظن أن تلاوة القنوت باقية و لم يعلم أنها قد نسخت .
و أما امرأة ابن رواحة فلم تكن من ذوي الفصاحة و البلاغة فتفرق بين الشعر و أسلوب القرآن فلم يكن لوهمها تأثير .
4 - ـ كثرة معانيه : .
و الوجه الرابع من إعجازه كثرة معانيه التي لا يجمعها كلام البشر و ذلك وجهين : .
أحدهما : ما يجمعه قليل الكلام من كثير المعاني كقوله تعالى : { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين } فجمع في آية واحدة بين أمرين و نهيين و خبرين و بشارتين .
و الثاني : أن ألفاظه تحتمل معاني متغايرة تحار فيها العقول و تذهل فيها الخواطر و تكل فيها القرائح ثم لا تبلغ أقصاه و لا تدرك منتهاه حتى اختلف فيه الوجوه و تقابلت فيه النظائر .
فإن قيل : فهذا ألغاز و رمز هو بالذم منه أولى بالحمد فعنه جوابان : .
أحدهما : أن الألغاز و إن ذم فالرمز ليس بمذموم و ليس فيه لغز و إن كان فيه رمز .
و الثاني : أن ما اختلف معانيه يخرج عن اللغز و الرمز لأن اللغز ما أريد به غير معناه و الرمز ما خفي معناه .
5 - ـ جمعه للعلوم : .
و الوجه الخامس من إعجازه ما جمعه القرآن من علوم لا يحيط بها بشر و لا تجتمع في مخلوق فلم يكن إلا من عند الله المحيط بكل شيء علما حتى علمه من لم يكن به عالما .
فإن قيل : فضل العلم لا يكون إعجازا في النبوات لأن العلماء قد يتفاضلون و لا يكون للأفضل إعجاز على المفضول فعنه جوابان : .
أحدهما : أن التفاضل في العلم موجود و الإحاطة بجميع العلوم مفقود .
و الثاني : أن ظهور العلم فيمن يتعاطاه ليس بمعجز لظهوره من جهته و ظهور فيمن لم يتعاطه معجزا لظهوره من غير جهته .
و قد كان أميا من أمة أميه لم يقرأ كتابا و لم يتعاط علما فصار ما أظهر معجزا .
6 - ـ تضمنه الحجج : .
و الوجه السادس من إعجازه ما تضمنه من الحجج و البراهين عاى التوحيد و الرجعة و على الدهرية و الثنوية حتى قطع بحجاجه كل محتج و خصم بجدله له كل خصم ألد .
فإن قيل : فدلائل التوحيد مستفادة بالعقول فلم يكن فيها إعجاز من وجهين أحدهما وجودها من ذاته و الثاني : مشاركته فيها لغيره .
و الجواب عنه من وجهين : أحدهما أنه لم يكن من أهل الجدل فيقطع كل مجادل و الثاني أنه احتج للرجعة بما زاد على قضابا العقول فخصم كل عاقل .
7 - ـ تضمنه أخبار الماضين : .
و الوجه السابع من إعجازه ما تضمنه من أخبار القرون الخالية و قصص الأمم السالفة و تحداه به أهل الكتاب من قصة أهل الكهف و شأن موسى و الخضر و حديث ذي القرنين فكان على ما ذكره أنبياؤهم و تضمنته كتبهم .
فإن قيل : فالأخبار بما كان ليس بمعجز لأن علم غير الأنبياء به ممكن فعنه جوابان : .
أحدهما : أنه ممكن فيمن علمها و متتنع فيمن لم يعلمها و لم يكن من أهلها فيعلمها فصار معجزا ممتنعا .
و الثاني : أنهم اقترحوا تحديه مما لم يكن مبتدئا و لا كان له متناهيا من غوامض أسرار و غرائب أخبار جعلوها حجاجا له و عليه ففصح بالجواب عن سرائرها و صدع بنعت غوامضها فخرج عن العرف إلى ما ليس بعرف فصار معجزا .
8 - ـ تضمنه عن علم الغيب : .
و الوجه الثامن من إعجازه ما تضمنه من علم الغيب بأخبار تكون فكانت كقوله لليهود : { قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } ثم قال : { ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم } فما تمناه أحد منهم .
و كقوله لقريش : { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } فقطع بأنهم لا يفعلون فلم يفعلوا .
أو كقوله : { سيهزم الجمع ويولون الدبر } و كان ذلك في يوم بدر .
و كقوله تعالى في هجرته من مكة إلى المدينة { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } فأعاده الله إلى مكة عام الفتح إلى غير ذلك من نظائره .
فإن قيل : فقد يكون ذلك حدسا بشواهد الأفعال و فراسة بفضل الألمعية و قوة الفطنة فعنه جوابان : .
أحدهما : أن الحدس و الفراسة و إن أصاب بهما تارة فقد يخطئ بهما أخرى و هذا إصابة في الجميع فخرجت عن الحديث و الفراسة إلى علم من لا تخفى عليه الغيوب .
و الثاني : أن الحدس و الفراسة توهم غير مقطوع بهما قبل الوجود و هذا إخبار بأنه مقطوع بها قبل الوجود فافترقوا .
9 - ـ إخباره بضمائر القلوب : .
و الوجه التاسع من إعجازه ما فيه من الأخبار بضمائر القلوب التي لا يصل إليها إلا علام الغيوب كقوله : { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا } من غير أن يظهر منهم قول أو يوجد منهم فشل و كقوله : { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم } فكان كقوله : و إن لم يتكلموا به إلى غير ذلك من نظائره .
فإن قيل : فالجمع الكثير تختلف ضمائرهم في العرف فإن وجد ذلك في بعضهم لم يوجد في جميعهم فإن لم يخل أن يعقده بعضهم خلا منه بعضهم فتقابل القولان فيهم و بطل إعجازه معهم فعنه جوابان : .
أحدهما : أنهم و وجهوا بهذا الخبر على العموم فلم ينكروه فزال هذا التفصيل فصار معجزا .
و الثاني : أنه جعله ذنبا لهم فلم يتنصلوا منه فدل على وجوده من جميعهم .
10 - ـ جزل القرآن لا يتوعر و لا يسترذل : .
و الوجه العاشر من إعجازه أن ألفاظ القرآن قد تشتمل على الجزل المستغرب و السهل المستقرب فلا يتوعر جزله و لا يسترذل سهله و يكونان إذا اجتمعا مطبوعين غير متنافرين و لا نجد ذلك في غيره من كلام البشر لأن جزله يتوعر و سهله يسترذل و الجميع بينهما يتنافر فصار من هذا الوجه مبانيا و في الإعجاز داخلا .
فإن قيل : إنما كان القرآن كذلك لأنه قد تواطأ بكثرة التلاوة فاستلذته الأسماع و استحلته الألسن و لولاه لتباين و اختلف فعنه جوابان : .
أحدهما : أن صفته عند أول سماعه لو كانت لما ذكر من العلة لاختلف في مباديه و غايته .
و الثاني : أن غيره من الكلام المختلف لا يتواطأ بكثرة ذكره فبطلت العلة .
11 - ـ اختصاص تلاوته ببواعث ليست لغيره : .
و الوجه الحادي عشر من إعجازه أن تلاوته تختص بخمسة بواعث عليه لا توجد في غيره أحدها : هشاشة مخرجه و الثاني : بهجة رونقه و الثالث : سلالة نظمه و الرابع : حسن قبوله و الخامس : أن قارئه لا يكل و سامعه لا يمل و هذا في غيره من الكلام المعدوم .
فإن قيل : إنما وقع في النفوس هذا الموقع للتدين بالتزامه و التخصيص بإعظامه فعنه جوابان .
أحدهما : أن هذا موجود في غيره من كتب الله تعالى كالتوراة و الإنجيل و الزبور و ليس يوجد ذلك فيها مع وجود هذا التعليل و لذلك ما استعان أهلها على استحلاء تلاوتها بما وضعوه لها من الألحان و استعذبوه لها من الأصوات و القرآن مستغن عن هذا بصيغة لفظه فلذلك ما راع وهيج الطباع .
و الثاني : التدين لا يسلب العقول تمييزها و لا يفسد عليها تصورها و هو بأن يزيدها بصيرة أولى من أن ينقصها و لو كان لهذه العلة لجحده من كفر كما اعترف به من آمن و قول الجميع فيه سواء .
12 - ـ القرآن منزل بألفاظه و معانيه لا كسائر الكتب الدينية : .
و الوجه الثاني عشر من إعجازه أنه منقول بألفاظه منزلة و معان مستودعة و بلغة الملك بلفظه و على نظمه و أداه الرسول إلى الأمة بمثله فلم ينخرم فيه لفظ و لا اختل فيه معنى و لا تغير له ترتيب حتى صار من الزلل مضبوطا و من التبديل محفوظا تستمر به الأعصار على شاكلته و تتداوله الألسن مع اختلاف اللغات على نظمه و صفته لا يختلف بتعاقب الأزمنة و لا يختل بتباعد الأمكنة و لا يتغير باختلاف الألسنة و غيره من الكتب مقصورة على حفظ معانيها و إن غويرت ألفاظها .
فإن التوراة ألقى الله تعالى معانيها إلى موسى عليه السلام فذكرها بلفظه و عبر عنها بكلامه .
و أما الإنجيل فهو ما أخبر به عيسى عليه السلام عن ربه و عن نفسه فجمعه تلامذته بألفاظهم و جعلوه كتابا متلوا .
و أما الزبور فأدعية بتحاميد و تسابيح تنسب إلى داود عن لفظه و لئن كانت معاني هذه الكتب مضافة إلى الله تعالى فليست بصيغة لفظه و لا على نظم كلامه كما نزل القرآن جامعا لألفاظه و معانيه و ترتيبه فصار مباينا لجميع كتبه و ما هذا إلا بمعونة إلهية حفظ الله تعالى بها إعجازه و أمد بها رسوله كما قال تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } .
فإن قيل : فحفظ الكلام على صيغة لفظه و اشتمال معانيه لا يكون معجزا كأشعار الجاهلية القدماء و أمثال من سلف من الحكماء فعنه جوابان : .
أحدهما : أن في هذا محولا و متروكا فلم ينحفظ .
و الثاني : أنه لا يعلم حاله فلم ينضبط و القرآن مخالف لهما في حفظه و ضبطه .
13 - ـ ارتباط معانيه المتغايرة : .
و الوجه الثالث عشر من إعجازه اقتران معانيه المتغايرة و اقتران نظائرها في السور المختلفة فيخرج في السورة من وعد إلى وعيد و من ترغيب إلى ترهيب و من ماض إلى مستقبل و من قصص إلى مثل و من حكم إلى جدل فلا ينبو و لا يتنافر و هي في غيره من الكلام متنافرة فتتجانس معانيها و كذلك هي في غيره من الكتب المنزلة مفصلة لكل نوع سفر فإن التوراة مقسومة على خمسة أسفار و كل سفر منها مفرد بمعنى واحد من المعاني المستودعة فيها .
فالسفر الأول : لذكر بدء الخلق و السفر الثاني : لخروج بني إسرائيل من مصر و السفر الثالث : لأمر القرابين و السفر الرابع : لإحصاء موسى بني إسرائيل و ما دبرهم به و السفر الخامس : لتكرير النواميس و جعل اختلاف معانيها موجبا لتفاضيلها فكان أفضل ما في التوراة عند اليهود العشر الكلمات المشتملة على الوصايا التي خاطب الله تعالى بها موسى و بها يستخفون دون غيرها .
و أفضل ما في الإنجيل الصحف الأربعة المنسوبة إلى تلامذة المسيح الأربعة و هي المخصوصة بالقراءة في الصلاة و الأعياد .
و أفضل ما في الزبور ما اتفق أهل الكتابين على اختياره و ما اشتمل عليه القرآن من تغايرها أولى من وجهين : .
إحداهما : أن لا يختص قارئه بأحدها فيعدل عن غيره .
و الثاني : أن يستوعب إذا أراد جميعها قراءة جميعه فيستكمل فوائده و يستجزل ثوابه .
فإن قيل : فالتفصيل أبلغ في البيان من الامتزاج فالجواب عنه ما ذكرناه من الوجهين .
14 - ـ طول الآيات و قصرها لم يؤثر في أسلوبها : .
و الوجه الرابع عشر من إعجازه أن اختلاف آياته في الطول و القصر لا يخرج عن أسلوبه و لا يزول عن اعتداله و غيره من نظم الكلام و نثره إذا تفاصلت أجزاؤه زال عن وزن منظومه و اعتدال منثوره فصار ذلك من إعجازه .
فإن قيل : زيادة طوله هذر و نقصان قصره حصر فكيف يكون معجزا إذا تردد بين هذر و حصر ؟ فعنه جوابان : .
أحدهما : أن الزيادة تكون هذرا إذا لم تفد و النقصان يكون حصرا إذا لم يقنع و الزيادة من طوله و النقصان من قصره مقنع فخرج عن الهذر و الحصر .
و الثاني : أن الطويل لو انفرد لم يكن هذرا و القصير لو انفرد لم يكن حصرا فلم يكن اجتماعهما موجبا لهذر و حصر كاختلاف السور في القصر و الطول فإن أقصر السور سورة الكوثر و تشتمل مع قصرها على أربعة معان : إخبار بنعمة و أمر بعبادة و بشرى بمسرة و أسلوب هو معجز فلم تخرج إذا قورنت بما هو أطول أن تكون معجزة .
15 - ـ مكثر تلاوته لا يزداد بالقراءة فصاحة .
و الوجه الخامس عشر من إعجازه أن مكثر تلاوته لا يزداد به فصاحة و إن ازداد بغيره من فصيح الكلام لخروجه عن طباع البشر فصار أسلوبه معجزا في الحالين و على كلا الوجهين .
فإن قيل : ما لا يؤثر في الطباع ناقص عن الكمال فكيف يوصف بالكمال ؟ فعنه جوابان : .
أحدهما : أن كماله فيه فلم يلزم تعديله .
و الثاني : أن كماله يوجب المنع من تساويه .
16 - ـ تيسيره على جميع الألسنة : .
و الوجه السادس عشر من إعجازه تيسيره على جميع الألسنة حتى حفظ الأعجمي الأبكم و دار به لسان القبطي الألكن و لا يحفظ غيره من الكتب كحفظه و لا تجري به ألسنة البكم كجريها به و ما ذاك إلا بخصائص إلهية فضله بها على سائر كتبه .
فإن قيل : فقد يحفظ الشعر كحفظه و العلة فيه اعتدال وزنه الذي يحفظ بعضه بعضا فلم يكن ذلك معجزا فعنه جوابان : .
أحدهما : إن ما اندرس من الشعر أكثر مما حفظ و هذا محفوظ لم يندرس فاختلفا .
و الثاني : ما لم تستعذبه الأفواه متروك و القرآن مستعذب غير متروك فافترقا .
17 - ـ القرآن أعلى مراتب الكلام .
و الوجه السابع عشر من إعجازه أن الكلام يترتب ثلاث مراتب : منثور يدخل في قدرة الخلق و شعر هو أعلى منه يقدر عليه فريق و يعجز عنه فريق و قرآن هو أعلى من جميعها و أفضل من سائرها تجاوز رتبة النوعين فخرج عن قدرة الفريقين .
فإن قيل : لو كان القرآن برهانا معجزا لخرج كثيرة و قليله عن القدرة و قليله مقدور عليه و هو أن يجمع بين ثلاث كلمات منه أو أربع فكذلك كثيره لأن الشيء إذا دخلت أوائله في جنس الممكن خرجت أواخره من جنس الممتنع فعنه جوابان : .
أحدهما : أن قليله و كثيره خارج عن القدرة إذا انتظم إعجازه و هو كأقصر سورة منه فبطل هذا الاعتراض .
و الثاني : أنه ليس القدرة على الكلمة و الكلمتين منه قدرة على استكمال ما يقع من التحدي كالمفحم في الشعر لا تكون قدرته على الكلمة و الكلمتين من بيت من الشعر قدرة على نظم بيت كامل من الشعر .
18 - ـ الزيادة فيه ممتازة و التغيير مفتضح : .
و الوجه الثامن عشر من إعجازه أن الزيادة فيه ممتازة و تغيير ألفاظه منه مفتضحة و لو كان في القدرة لالتبس و لو أمكن لاشتبه .
فإن قيل : فقد زيد فيه فالتبس و اشتبه و هو أن النبي صلى الله تعالى عليه و سلم لما نزلت عليه سورة النجم بمكة قرأها في المسجد الحرام حتى بلغ إلى قوله تعالى : { أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى } ألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلى و أن شفاعتهن لترتجى ثم تمم السورة و سجد فسجد معه المسلمون و فرح المشركون فسجدوا معه و رضيت كفار قريش به و سمع به من هاجر إلى أرض الحبشة فعادوا إلى أن أنكر عليه جبريل فشق عليه و نزل فيه قوله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته } .
قالوا : و معلوم أن هذه الزيادة هي في مثل أسلوب السورة و ليست من الله تعالى و قد اشتبهت فلم لا كان ما سواها بمثابتها فعنه جوابان : .
أحدهما : أن هذه زيادة لا تبلغ قدر التحدي فخرجت عن حكمه .
الثاني : أنه أنزل فيهم [ التي عندهم ] أيها الغرانيق العلى و إن شفاعتهن لترتجى فاشتبه على قريش و حذفوا منه قوله [ التي عندهم ] فنسخ الله تعالى لهذا الاشتباه تلاوة هذه الزيادة .
19 - ـ عجز الأمم عن معارضته : .
و الوجه التاسع عشر من إعجازه عجز الأمم عن معارضته و قد تحداهم أن يأتوا بسورة مثله فلم تخرجهم أنفة التحدي و صبروا على نغص العجز مع شدة حميتهم و قوة أنفتهم و قد سقه أحلامهم و سب أصنامهم و لو وجدوا إلى المعارضة سبيلا ـ و كان في مقدورهم داخلا و قد جعله حجة لهم في رد رسالته ـ لعارضوه و لما عدلوا عنه إلى بذل نفوسهم في قتاله و سفك دمائهم في محاربته .
فإن قيل : فليس يمتنع أن يكونوا قد عارضوا بمثله فكتم ما هجي به من الأشعار و قرف به من العار فعنه جوابان : .
أحدهما : أنهم لو عارضوه لظهر و لو ظهر لانتشر لأن تكاتم الاستفاضة لا تستطاع لما في الطباع من الإذاعة و في نفثات الصدور من الإشاعة و لقيل قد عورض فكتم كما قيل هجي فكتم و لو جاز هذا في معارضة القرآن لجاز مثله في معجزة كل نبي أن يقال : قد عورض معجزه فكتم فيفضي إلى إبطال كل معجز و هذا مدفوع في معارضة غير للقرآن فكان مدفوعا في معارضة القرآن .
و الثاني : أنه قد جعل معارضته حجة لهم في رد رسالته فلو عارضوه لاحتجوا عليه بالمعارضة و لما احتاجوا معه إلى القتال و المحاربة مع بذل النفوس و استهلاك الأموال و لدفعوه بالأهون دون الأصعب و قد نقل ما عورض به فظهر فيه العجز و بان فيه النقص حتى فضحته ركاكة لفظه و سخافة نظمه .
نماذج من المعارض السخيفة : .
فحكى ابن قتيبة عن مسيلمة أنه قال في معارضة القرآن : يا ضفدع نقي كم تنقين لا الماء تكدرين و لا الشراب تمنعين فلما سمع هذا أبو بكر رضي الله تعالى عنه قال إن هذا الكلام لم يخرج من إله .
و حكى عن غيره و أحسبه العنسي أنه قال : ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى أخرج من بطنها نسمة تسعى من بين شراسيف وحشى .
و حكى عن آخر الفيل ما الفيل له ذنب وثيل و مشفر طويل فإن ذلك من خلق ربنا لقليل .
و حكى الحكم عن عكرمة أن النضر بن الحارث و كان من فصحاء قريش عارض القرآن فقال : و الزارعات زرعا و الحاصدات حصدا و الطاحنات طحنا و العاجنات عجنا و الخابزات خبزا فاللاقمات لقما .
و قال أخر قد أفلح من هينم في صلاته و أطعم المساكين من مخلاته و أخرج الواجب من زكاته .
و قال آخر : في معارضة سورة النجم و النجم إذا سما و البحر إذا طما ما زاغ منذركم و ما طغى و ما كذب بها و غوى فيما نطق به و روى فأنزل الله تعالى في ذلك : { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء } فهذه المعارضة و قد احتذوا فيها مثالا عدلوا بها عن طوال السور إلى قصارها فأتوا بسقيم الكلام دون سليمه و بسخيفه دون جميله فكيف يقابل به غايته القصوى و يواري به طبقته العليا و هل ذلك إلا كمن عارض فصاحة سحبان بعي باقل أو تخليط مجنون بحزم عاقل أو قاس الدر بالمدر و شاكل بين الصفو و الكدر و من تعاطى ما ليس في طبعه فخر صريعا و هوى سريعا .
20 - ـ الصرفة عن معارضته : .
الوجه العشرون من إعجازه الصرفة عن معارضته و اختلف من قال بها هل صرفوا عن القدرة على معارضته أو صرفوا عن معارضته مع دخوله في مقدورهم ؟ على قولين : .
أحدهما : أنهم صرفوا عن القدرة و لو قدروا لعارضوا .
و القول الثاني : أنهم صرفوا عن المعارضة مع دخوله في مقدورهم و الصرفة إعجاز على القولين معا في قول من نفاها و أثبتها فخرقها للعادة فيما دخل في القدرة .
فإن قيل : فإن عجزوا عن معارضته بمثله لم يعجزوا عن معارضته بما تقاربه و إن نقص عن رتبته و المعجز ما لم يمكن مقاربته كما لا يمكن مماثلته فعنه جوابان : .
أحدهما : أن مقاربته تكون بما في مثل أسلوبه إذا قصر عن كماله و الأسلوب ممتنع فبطلت المقاربة و ثبت الإعجاز .
و الثاني : أن المقاربة تمنع من المماثلة و التحدي إنما كان بالمثل دون المقاربة .
فإذا ثبت إعجاز القرآن من هذه الوجوه كلها صح أن يكون كل واحد منها معجزا فإذا جمع القرآن سائرها كان إعجازه أقهر و حجاجه أظهر و صار كفلق البحر و إحياء الموتى لأن مدار الحجة في المعجزة إيجاد ما لا يستطيع الخلق مثله سواء كان جسما مخترعا أو جرما مبتدعا أو عرضا متوهما