الباب العشرون ـ في شرفه أخلاقه و كمال فضائله صلى الله تعالى عليه و سلم .
فضائل محمد صلى الله عليه و سلم ثابته قبل النبوة : .
المهيأ لأشرف الأخلاق و أجمل الأفعال المؤهل لأعلى المنازل و أفضل الأعمال لأنها أصول تقود إلى ما ناسبها و وافقها و تنفرد مما باينها و خالفها و لا منزلة في العالم أعلى من النبوة التي هي سفارة بين الله تعالى و عباده تبعث على مصالح الخلق و طاعة الخلق فكان أفضل الخلق بها أخص و أكملهم بشروطها أحق بها و أمس .
و لم يكن في عصر الرسول و ما دانى طرفيه من قاربه في فضله و لا داناه في كماله خلقا و خلقا وقولا و فعلا و بذلك و صفه الله تعالى في كتابه بقوله : { وإنك لعلى خلق عظيم } .
فإن قيل : فليست فضائله دليلا على نبوته و لم يسمع بنبي احتج بها على أمته و لا عول عليها في قبول رسالته لأنه قد يشارك فيها حتى يأتي بمعجز يخرق العادة فيعلم المعجز أنه نبي لا بالفضل .
قيل : الفضل من أماراتها و إن لم يكن من معجزاتها و لأن تكامل الفضل معوز فصار كالمعجز و لأن من كمال الفضل اجتناب الكذب و ليس من كذب في ادعاء النبوة بكامل الفضل فصار كمال الفضل موجبا للصدق و الصدق موجبا لقبول القول فجاز أن يكون من دلائل الرسل .
كمال خلق النبي صلى الله عليه و سلم : .
فإذا وضح هذا فالكمال المعتبر في البشر يكون من أربعة أوجه : .
أحدها : كمال الخلق و الثاني : كمال الخلق و الثالث : فضائل الأقوال و الرابع : فضائل الأعمال .
فأما الوجه الأول في كمال خلقه بعد اعتدال صورته فيكون بأربعة أوصاف : .
أحدها : السكينة الباعث على الهيبة و التعظيم الداعية إلى التقديم و التسليم و كان أعظم مهيب في النفوس حتى ارتاعت رسل كسرى من هيبته حين أتوه مع ارتياضهم بصولة الأكاسرة و مكاثرة الملوك الجبابرة فكان في نفوسهم أهيب و في أعينهم أعظم و إن لم يتعاظم بأهبة و لم يتطاول بسطوة بل كان بالتواضع موصوفا و بالوطاء معروفا .
و الثاني : الطلاقة الموجبة للإخلاص و المحبة الباعثة على المصافاة و المودة و قد كان محبوبا و لقد استحكمت محبة طلاقته في النفوس حتى لم يقله مصاحب و لم يتباعد منه مقارب و كان أحب إلى أصحابه من الآباء و الأبناء و شرب البارد على الظمأ .
و الثالث : حسن القبول الجالب لممائلة القلوب حتى تسرع إلى طاعته و تذعن بموافقته و قد كان قبول منظره مستوليا على القلوب و لذلك استحكمت مصاحبته في النفوس حتى لم ينفر منه معاند و لا استوحش منه مباعد إلا من ساقه الحسد إلى شقوته و قاده الحرمان إلى مخالفته .
و الرابع : ميل النفوس إلى متابعته و انقيادها لموافقته و ثباته على شدائده و مصابرته فما شذ عنه معها من أخلص و لا ند عنه فيها من تخصص .
و هذه الأربعة من دواعي السعادة و قوانين الرسالة و قد تكاملت فيه فكمل لما يوازيها و استحق ما يقتضيها .
كمال أخلاق النبي صلى الله عليه و سلم : .
و أما الوجه الثاني في كمال أخلاقه فيكون بست خصال : .
إحداهن رجاحة عقله و صحة وهمه و صدق فراسته و قد دل على وفور ذلك فيه صحة رأيه و صواب تدبيره و حسن تألفه و أنه ما استفعل في مكيدة و لا استعجز في شديدة بل كان يلحظ الإعجاز في المبادي فيكشف عيوبها و يحل خطوبها و هذا لا ينتظم إلا بأصدق وهم و أوضح جزم .
ثباته في الشدائد عليه السلام : .
و الخصلة الثانية ثباته في الشدائد و هو مطلوب و صبره على البأساء و الضراء و هو مكروب و محروب و نفسه في اختلاف الأحوال ساكنة لا يجوز في شديدة و لا يستكين لعظيمة أو كبيرة و يقدر على الخلاص و هو بالشر لا يزداد إلا اشتدادا و صبرا و قد لقي بمكة من قريش ما يشيب النواصي و يهد الصياصي و هو من الضعف يصابر صبر المستعلي و يثبت ثبات المستولي .
و روى حماد بن سلمة [ عن ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم قال : لقد أخفت في الله و ما يخاف أحد و لقد أوذيت في الله و ما يؤذي أحد و لقد أتت علي ثلاثون من بين يوم و ليلة و مالي و لبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال ] .
و روى عبد الرحمن بن زيد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : ما شبع آل محمد من الشعير يومين حتى قبض رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم .
و من صبر على هذه الشدائد في الدعاء إلى الله تعالى امتنع أن يريد به الدنيا و قد زويت عنه و ما ذاك إلا لطلب الآخرة و مستحيل ممن كذب في ادعائه إليها أن يستوحشها أو كذب على الله تعالى أن يثاب بها .
زهده في الدنيا عليه السلام : .
و الخصلة الثالثة زهده في الدنيا و إعراضه عنها و قناعته بالبلاغ منها فلم يمل إلى نضارتها و لم يله لحلاوتها .
و روى سفيان الثوري [ عن حبيب بن أبي ثابت عن خيثمة بن عبد الرحمن قال : قيل لرسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم إن شئت أعطيت خزائن الأرض ما لم يعط أحد قبلك و لا يعطاه أحد بعدك و لا ينقضك في الآخرة شيئا قال : اجمعوها لي في الآخرة فنزلت : { تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا } ] .
و روى هلال بن أبي خباب [ عن عكرمة عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب رضوان الله تعالى عليه دخل على رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم و هو على حصير قد أثر في جسمه فقال له : يا رسول الله لو اتخذت فراشا أوطأ من هذا فقال : ما لي و للدنيا و الذي نفسي بيده ما مثلي و مثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من النهار ثم راح و تركها ] .
و روى حميد بن بلال بن أبي بردة قال : أخرجت إلينا عائشة رضي الله تعالى عنها كساء ملبدا و إزارا غليظا و قالت : قبض رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم في هذين .
هذا و قد ملك من أقصى الحجاز إلى عذار العراق و من أقصى اليمن إلى شجر عمان و هو أزهد الناس فيما يقتني و يدخر و أعراضهم عما يستفاد و يحتكر لم يخلف عينا و لا دينا و لا حفر نهرا و لا شد قصرا و لم يورث ولده و أهله متاعا و لا مالا ليصرفهم عن الرغبة في الدنيا كما صرف نفسه عنها فيكونوا على مثل حاله في الزهد فيها .
و روى أبو سلمة [ عن أبي هريرة قال : جاءت فاطمة عليها السلام الى أبي بكر رضي الله تعالى عنه تريد الميراث فمنعها فقالت : من يرثك ؟ قال : ولدي و أهلي فقالت : فلا ترث رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم بنته ؟ فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم يقول : إنا لا نورث ما تركنا فهو صدقة فمن كان رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم يعوله فأنا عوله و من كان رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم ينفق عليه فأنا أنفق عليه ] .
و حث رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم على الزهد في الدنيا و الإعراض عن التلبس بها ليكون عونا على السلامة من تبعاتها و صرف النفوس عن شهواتها .
و روى عبد المطلب بن حاطب [ عن أبي موسى الأشعري : أن رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم قال : من أحب دنياه أضر بآخرته فآثروا ما يبقى على ما يفنى ] .
وروى [ عن الحسن Bه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : حب الدنيا رأس كل خطيئة ] .
و روى أبو حكيم [ عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : احذروا الدنيا فإنها أسحر من هاروت و ماروت ] .
و روى عمرو بن مرة [ عن أبي جعفر قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : يا عجبا كل العجب للمصدق بدار الخلود و هو يسعى لدار الغرور ] .
و روى عوف [ عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم إنما مثل الدنيا كمثل الماشي على الماء هل يستطيع الذي يمشي على الماء أن لا تبتل قدماه ؟ ! ] .
و هذه الدواعي و الوصايا ما اقتدى به خلفاؤه في زهده و انتقلوا بالأمور من بعده .
فكان أبو بكر رضوان الله عليه يتخلل عباءة له و هو خليفة فسمي : ذا الخلالين .
و كان عمر رضي الله تعالى عنه يلبس مرقعة من صوف فيها رقاع من أدم و يطوف في الأسواق على عاتقه درة يؤدب بها الناس و يمر بالنوى فيلقطه و يلقيه في منازل الناس حتى ينتفعوا به و يطوف وحده في الليل عسا و يتطلع غوامض الأمور تجسسا ليأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر .
و كان عثمان رضي الله تعالى عنه يقوم الليل كله يختم القرآن في ركعة و جاد بماله و فدى الخلق بنفسه و قال : إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد و أشرب كما يشرب العبد .
و اشترى علي رضي الله تعالى عنه و هو خليفة قميصا بثلاثة دراهم و قطع كمه من موضع الرسغين و قال : الحمد لله الذي هذا من رياشه و لم يزل يأكل الخشن و يلبس الخشن و فرق الأموال حتى رش بيت المال و نام فيه و قال : يا صفراء يا بيضاء غري غيري .
و حقيق بمن كان في الدنيا بهذه الزهادة حتى اجتذب أصحابه إليها أن لا يتهم بطلبها و يكذب على الله تعالى في ادعاء الآخرة بها و يقنع في العاجل و قد سلب الآجر بالميسور النزر و رضي بالعيش الكدر .
و قد روى الزهري [ عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم يقول في شهر رمضان : قدمي غداءك المبارك و قالت : ربما لم يكن إلا تمرتين ] .
و روى عبد الله بن مسلمة [ عن مالك بن أنس أنه بلغه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم دخل المسجد فوجد أبا بكر و عمر رضي الله تعالى عنهما فسألهما فقال : ما أخرجكما فقالا : أخرجنا الجوع فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : و أنا أخرجني الجوع فذهبوا إلى أبي الهيثم بن التيهان فأمر له بحنطة أو شعير عنده يعمل و قام فذبح لهم شاة فقال له نكب عن ذات الدر و استعذب لهم ماء علق على نخلة ثم أوتوا بذلك الطعام فأكلوا منه و شربوا من ذلك الماء فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : لتسألن عن نعيم هذا اليوم ثم ملكوا الدنيا فرفضوها و اقتنعوا بالبلاغة فيها ] .
تواضعه عليه السلام : .
و الخصلة الرابعة تواضعه للناس و هم اتباع و خفض جناحه لهم و هو مطاع يمشي في الأسواق و يجلس على التراب و يمتزج بأصحابه و جلسائه فلا يتميز عنهم إلا بإطراقه و حيائه : فصار بالتواضع متميزا و بالتذلل متعززا و لقد دخل عليه بعض الأعراب فارتاع من هيبته فقال خفف عليك فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة و هذا من شرف أخلاقه و كريم شيمه فهي غريزة فطر عليها و جبلة طبع بها و لم تندر فتعد و لم تحصر فتحد .
حلمه و وقاره عليه السلام : .
و الخصلة الخامسة حلمه و وقاره عن طيش يهزه أو خرق يستفزه فقد كان أحلم في النفار من كل حليم و أسلم في الخصام من كل سليم و قد مني بجفوة الأعراب فلم يوجد منه نادرة و لم يحفز عليه بادرة و لا حليم غيره إلا ذو عسرة و لا وقور سواه إلا ذو هفوة فإن الله تعالى عصمه من نزع الهوى و طيش القدرة بهفوة أو عثرة ليكون بأمته رؤوفا و على الخلق عطوفا قد تناولته قريش بكل كبيرة و قصدته بكل جريرة و هو صبور عليهم و معرض عنهم و ما تفرد بذلك سفهاؤهم دون حلمائهم و لا أراذلهم دون عظمائهم بل تمالأ عليه الجلة و الدون فكلما كانوا عليه من الأمر و ألح كان عنهم أعرض و أفصح حت قهر فعفا و قدر فغفر و قال لهم حين ظفر بهم عام الفتح و قد اجتمعوا إليه : ما ظنكم بي ؟ قالوا : ابن عم كريم فإن تعف فذاك الظن بك و إن تنتقم فقد أسأنا فقال : بل أقول كما قال يوسف لأخوته { لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين } قال صلى الله تعالى عليه و سلم : [ اللهم قد أذقت أول قريش نكالا فأذق آخرهم نوالا ] .
و أتته هند بنت عتبة و قد بقرت بطن عمه حمزة و لاكت كبده فصفح عنها و أعطاها يده لبيعتها .
فإن قيل : فقد ضرب رقاب بني قرييظة صبرا في يوم أحد و هم نحو سبعمائة فأين موضع العفو و الصفح ؟ و قد انتقم انتقام من لم يعطفه عليهم رحمة و لا داخلته لهم رقة .
قيل إنما فعل ذلك في حقوق الله تعالى و قد كانت بني قريظة رضوا بتحكيم سعد بن معاذ عليهم فحكم أن من جرت عليه الموسى قتل و من لم تجر عليه استرق فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم هذا حكم الله من فوق سبعة أرقعة فلم يجز أن يعفو عن حق وجب لله تعالى عليهم و إنما يختص عفوه بحق نفسه .
حفظه عليه السلام للعهد : .
و الخصلة السادسة حفظه للعهد و وفاؤه بالوعد فإنه ما نقض لمحافظ عهدا و لا أخلف لمراقب وعدا يرى الغدر من كبار الذنوب و الإخلاف من مساوئ الشيم فيلتزم فيها الأغلظ و يرتكب فيهما الأصعب حفظا لعهده و وفاء بوعده حتى يبتدئ معاهدوه بنقضه فيجعل الله تعالى له مخرجا كفعل اليهود من بني قريظة و بني النضير و كفعل قريش بصلح الحديبية فجعل الله تعالى له في نكثهم الخيرة فهذه ست خصال تكاملت في خلقه فضله الله تعالى بها على جميع خلقه .
فضائل أقوال النبي عليه السلام : .
و أما الوجه الثالث في فضائل أقواله فمعتبر بثماني خصال : .
إحداهن ما أتى من الحكمة البالغة و أعطي من العلوم الجمة الباهرة و هو أمي من أمة أمية لم يقرأ كتابا و لا درس علما و لا صحب عالما و لا معلما فأتى بما بهر العقول و أذهل الفطن من اتقان ما أبان و إحكام ما أظهر فلم يعثر فيه بزلل في قول أو عمل و جعل مدار شرعه على أربعة أحاديث أوجز بها المراد و أحكم بها الاجتهاد .
أحدها : قوله : [ إنما الأعمال بالنيات و إنما لكل امرئ ما نوى ] .
و الثاني قوله : [ الحلال بين و الحرام بين و بين ذلك أمور مشتبهات و من يحم حول الحمى يوشك أن يقع فيه ] .
و الثالث قوله : [ من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ] .
و الرابع قوله : [ دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ] .
و قد شرع من تقدم من حكماء الفلاسفة سننا حملوا الناس على التدين بها حين علموا أنه لا صلاح للعالم إلا بدين ينقادون له و يعملون به فما راق لها أثر و لا فاق لها خبر و هم ينبوع الحكم و أعيان الأمم و ما هذه الفطرة في الرسول إلا من صفاء جوهره و خلوص مخبره .
و الخصلة الثانية حفظه لما أطلعه الله تعالى عليه من قصص الأنبياء مع الأمم و أخبار العالم في الزمن الأقدم حتى لم يعزب عنه منها قليل و لا كثير و هو لا يضبطها بكتاب يدرسه و لا يحفظها بعين تحرسه و ما ذاك إلا من ذهن صحيح و صدر فسيح و قلب شريح و هذه الثلاثة آلة ما استودع من الرسالة و حمل من أعباء النبوة فجدير أن يكون بها مبعوثا و على القيام بها محثوثا .
و الخصلة الثالثة إحكامه لما شرع بأظهر دليل و بيانه بأوضح تعليل حتى لم يخرج منه ما يوجبه معقول و لا دخل فيه ما تدفعه العقول و لذلك قال صلى الله تعالى عليه و سلم : .
[ أوتيت جوامع الكلم و اختصرت لي الحكمة اختصارا ] لأنه نبه بالقليل على الكثير فكف عن الإطالة و كشف عن الجهالة و ما تيسر ذلك إلا و هو عليه معان و إليه مفاد .
و الخصلة الرابعة ما أمر به من محاسن الأخلاق و دعا إليه من مستحسن الأدب و حث عليه من صلة الأرحام و ندب إليه من التعطف على الضعفاء و الأيتام ثم ما نهى عنه من التباغض و التحاسد و كف عنه من التباعد فقال : [ لا تقاطعوا و لا تدابروا ولا تباغضوا و كونوا عباد الله إخوانا ] لتكون الفضائل فيهم أكثر و محاسن الأخلاق بينهم أنشر و مستحسن الآداب عليهم أظهر و تكون إلى الخير أسرع و من الشر أمنع فيتحقق فيهم قول الله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } فلزموا أوامره و اتقوا زواجره فتكامل بهم صلاح دينهم و دنياهم حتى عز بهم الإسلام بعد ضعفه و ذل بهم الشرك بعد عزه فصاروا أئمة أبرارا و قادة أخيارا .
و الخصلة الخامسة وضوح جوابه إذا سئل و ظهور حجاجه إذا جودل لا يحصره عي و لا يقطعه عجز و لا يعارضه خصم في جدال إلا كان جوابه أوضح و حجاجه أرجح أتاه أبي بن خلف بعظم نخر من المقابر قد صار رميما ففركه حتى صار كالرماد ثم قال : يا محمد أنت تزعم أنا و آباءنا نعود إذا صرنا هكذا لقد قلت قولا عظيما ما سمعناه من غيرك { من يحيي العظام وهي رميم } فأنطق الله تعالى رسوله صلى الله تعالى عليه و سلم ببرهان نبوته فقال : { يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم } فانصرف مبهوتا و لم يحر جوابا و لما قال عليه الصلاة و السلام [ لا عدوى و لا طيرة قال له رجل يا رسول الله إنا نرى النقبة من الجرب في مشفر البعير فيعدو سائره قال : فمن أعدى الأول ؟ و أسكته ] .
و الخصلة السادسة أنه محفوظ اللسان من تحريف في قول و استرسال في خبر يكون إلى الكذب منسوبا و للصدق مجانبا فإنه لم يزل مشهورا بالصدق في خبره فاشيا و كثيرا حتى صار بالصدق مرقوما و بالأمانة مرسوما .
و كانت قريش بأسرها تتيقن صدقه قبل الإسلام فجهروا بتكذيبه في استدعائهم إليه فمنهم من كذبه حسدا و منهم من كذبه عنادا و منهم من كذبه استبعادا أن يكون نبيا أو رسولا و لو حفظوا عليه كذبه نادرة في غير الرسالة لجعلوها دليلا على تكذيبه في الرسالة و من لزم الصدق في صغره كان له في الكبر ألزم و من عصم منه في حق نفسه كان في حقوق الله تعالى أعصم و حسبك بهذا دفعا لجاحد وردا لمعاند .
و الخصلة السابعة تحرير كلامه في التوخي به إبان حاجته و الاقتصار منه على قدر كفايته فلا يسترسل فيه هذرا و لا يحجم عنه حصرا و هو فيما عدا حالتي الحاجة و الكفاية أجمل الناس صمتا و أحسنهم سمتا و لذلك حفظ كلامه حتى لم يختل و ظهر رونقه حتى لم يعتل و استعذبته الأفواه حتى بقي محفوظا في القلوب مدونا في الكتب فلن يسلم الإكثار من ذلل و لا الهذر من ملل .
أكثر أعرابي عنده الكلام فقال : يا أعرابي كم دون لسانك من حجاب ؟ قال شفتاي و أسنني فقال صلى الله تعالى عليه و سلم : [ إن الله يكره الانبعاق في الكلام فنضر الله و جه امرىء قصر من لسانه و اقتصر على حاجته ] .
و الخصلة الثامنة أنه أفصح الناس لسانا و أوضحهم بيانا و أوجزهم كلاما و أجزلهم ألفاظا و أصحهم معاني لا يظهر فيه هجنة التكلف و لا يتخلله فيهقة التعسف و قال صلى الله تعالى عليه و سلم : [ أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون و قال : إياك و التشادق و لما نزل عليه قوله تعالى : { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه } بنى مساجد قباء فحضر عبد الله بن رواحة فقال : يا رسول الله قد أفلح من بنى المساجد قال : نعم يا ابن رواحة قال : و لم يبت لله إلا ساجد قال : يا ابن رواحة كف عن السجع ] فما أعطي شيئا شرا من طلاقة في لسانه .
من جوامع كلام النبي عليه السلام الموجز : .
فمن كلامه الذي لا يشاكل في إيجازه قوله صلى الله تعالى عليه و سلم : [ الناس بزمانهم أشبه ] و قوله [ ماهلك امرؤعرف قدره ] و قوله : [ لو تكاشفتم ما تدافنتم ] و قوله : [ السعيد من وعظ بغيره ] وقوله : [ حبك للشيء يعمي و يصم ] و قوله : [ العقل ألوف مألوف ] و قوله : [ العدة عطية ] و قوله : [ اللهم إني أعوذ بك من طمع يهدي إلى طبع ] و قوله : [ أفضل الصدقة جهد المقل ] و قوله : [ اليد العليا خير من اليد السفلى ] و قوله [ ترك الشر صدقة ] و قوله : [ الخير كثير و قليل فاعله ] و قوله : [ الناس كمعادن الذهب ] وقوله : [ نزلت المعونة على قدر المؤنة ] و قوله : [ إذاأراد الله بعبد خيرا جعل له واعظا من نفسه ] و قوله : [ أدي الأمانة إلى من ائتمنك و لا تخن من خانك ] و قوله : [ المؤمن غر كريم و الفاجر خب لئيم ] و قوله : [ الدنيا سجن المؤمن و بلاؤه و جنة الكافر و رخاؤه ] .
من كلام الرسول الذي لا يشاكل فصاحة : .
و من كلامه الذي لا يشاكل في فصاحته قوله صلى الله تعالى عليه و سلم : [ إياكم و المشاورة فإنها تميت الغرة و تحيي الفرة ] و قوله : [ لا تزال أمتي بخير ما لم تر الأمانة مغنما و الصدقة مغرما ] و قوله : [ رحم الله عبدا قال خيرا فغنم أو سكت فسلم ] و قوله : [ اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع و نفس لا تشبع و قلب لا يخشع و عين لا تدمع ] وقوله : [ هل يطمع أحدكم إلا غنى مطغيا أو فقرا منسيا أو مرضا مفسدا أو هرما مفندا أو الدجال فهو شر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى و أمر ] وقوله : [ ثلاث منجيات و ثلاث مهلكات فأما المنجيات فخشية الله تعالى في السر و العلانية و الاقتصاد في الغنى والفقر و الحكم بالعدل في الرضا و الغضب و أما المهلكات فشح مطاع و هوى متبع و إعجاب المرء بنفسه ] و قوله : [ و تقبلوا لي بست أتقبل لكم الجنة قالوا : و ما هي يا رسول الله ؟ قال إذا حدث أحدكم فلا يكذب و إذا وعد فلا يخلف و إذا ائتمن فلا يخن غضوا أبصاركم و احفظوا فروجكم و كفوا أيديكم ] و قوله [ في بعض خطبه : إلا أن الأيام تطوى و الأعمار تفنى و الأبدان في الثرى تبلى و إن الليل و النهار يتراكضان تراكض البريد يقربان كل بعيد و يخلقان كل جديد و في ذلك عباد الله ماألهى عن الشهوات ورغب في الباقيات الصالحات ] و قوله [ في بعض خطبه و قد خاف من أصحابه فطرة : أيها الناس كأن الموت فيها على غيرنا كتب و كأن الحق فيها على غيرنا و جب و كأن الذي يشيع من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون نبوئهم أجداثهم و نأكل تراثهم كأنا مخلدون بعدهم قد نسينا كل واعظة و أمنا كل جائحة طوبى لمن شغلته آخرته عن دنياه طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ] و هذا يسير من كثير و لا يأتي عليه إحصاء و لا يبلغه استقصاء وغنما ذكرنا مثالا ليعلم أن كلامه جامع لشروط البلاغة و معرب عن نهج الفصاحة و لو مزج بغيره لتميز بأسلوبه و لظهر فيه آثار التنافر فلم يلتبس حقه من باطله و لبان صدقه من كذبه هذا و لم يكن متعاطيا للبلاغة و لا مخالطا لأهلها من خطباء أو شعراء أو فصحاء و إنما هو من غرائز فطرته و بداية جبلته و ماذاك إلا لغاية تراد و حادثة تشاد .
فإن قيل : إذا كان كلامه مخالفا غيره لكلام غيره في البلاغة و الفصاحة حتى لم يكن فيه مساجلا أيكون له معجزا ؟ .
قيل له : لو كان هكذا و تحدى به صار معجزا و لايكون مع عدم التحدي معجزا