الباب العاشر ـ فيما سمع من معجزات أقواله .
الإخبار عن غائب : .
و المعجزات من القول هو الإخبار عن غائب لا يعلم به غير مخبره فيكون على صدقه دليلا لأن الخبر ما احتمل الصدق و الكذب و حقيقة الخبر عليه مجازا فإن أضيف المستقبل إلى فعل الخبر كان وعدا يصح من نبي و غير نبي و إن أضيف إلى فعل غيره كان من العيوب المعجزة لا يصح إلا من نبي مبعوث و عن وحي منزل إذا تكرر عاريا عن الأسباب المنذرة و لئن ظهر خبر من غير نبي فهو بالاتفاق عن حدس إن صح في خبر لم يصح في كل خبر و يصح من النبي صلى الله تعالى عليه و سلم في كل خبر لأنه من الله تعالى المحيط بعلم الغيوب كما قال لنبيه : { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير } .
و في خزائن الله ههنا تأويلان : أحدهما : خزائن الرزق فأغنى و أفقر و الثاني : خزائن العذاب فأعجل وادخر .
تفسير قوله تعالى { ولا أعلم الغيب } .
و في قوله : { ولا أعلم الغيب } تأويلان : .
أحدهما : علم الخزائن على ما مضى من التأولين .
و الثاني : علم ما غاب عن ماض و مستقبل إلا أن المستقبل لا يعلمه إلا الله تعالى و من أطلعه عليه من أنبيائه و أما الماضي فقد يعلمه المخلوقون من أحد وجهين إما من مخلوق معاين أو من خالق مخبر فكانت الأخبار المستقبلة من آيات الله تعالى المعجزة فأما الماضية فإن علم بها غير المخبر لم تكن معجزة و إن لم يعلم بها أحد كانت آية معجزة .
تفسير قوله تعالى : { ولا أقول لكم إني ملك } : و في قوله : { ولا أقول لكم إني ملك } تأويلان : .
أحدهما : أنه لا يقدر على ما يعجز عنه العباد و إن قدرت عليه الملائكة .
و الثاني : إنه من البشر و ليس بملك لينفي عن نفسه غلو النصارى في المسيح .
و في نفيه أن يكون ملكا تأويلان أحدهما : أنه دفع عن نفسه منزلة الملائكة تفضيلا لهم على الأنبياء و الثاني : إني لست ملكا في السماء فأعلم غيب السماء الذي تشاهده الملائكة و يغيب عن البشر و إن كان الأنبياء أفضل من الملائكة مع غيبهم عما يشاهده الملائكة .
و في قوله : { إن أتبع إلا ما يوحى إلي } .
أحدهما : لن أخبركم إلا بما أطلعني الله عليه .
و الثاني : لن أفعل إلا ما أمرني الله به .
{ قل هل يستوي الأعمى والبصير } فيه تأويلان .
أحدهما : العالم و الجاهل .
و الثاني : المؤمن و الكافر فثبت بما قررناه أن في الأقوال معجزة كالأفعال من أعلام النبوة و آيات الرسل و نحن نذكر منها مااختص بقول الرسول دون ما تضمنه القرآن لأن القرآن معجز في الخبر و غير الخبر .
و مجيء الأخبار ينقسم على أربعة أقسام : أخبار استفاضة و أخبار تواتر و أخبار آحاد بقرائن و أخبار آحاد مجردة .
أخبار الاستفاضة : .
فأما أخبار الاستفاضة و التواتر فقد أطلق أهل العلم ذكرهما و لم يفرقوا بينهما و هما عندي مفترقان لأن اختلاف الأسماء موضوع لاختلاف المسمى فكان حملها على حقيقة الاختلاف أولى من حملها على مجاز الائتلاف .
فأخبار الاستفاضة : ما بدأت منتشرة عن كل مخبر بر و فاجر عن قصد و غير قصد و يتحققها كل سامع من عالم و جاهل فلا يختلف فيها مخبر و لا يتشكك فيها سامع و يستوي طرفاها و وسطها فتكون أوائلها كأواخرها و تناهيها و هي أقوى الأخبار ورودا و أبلغها ثبوتا .
أخبار التواتر : و أما أخبار التواتر : فهو ما أخبر به الواحد بعد الواحد حتى كثروا أو بلغوا عددا ينتفي عن مثلهم المواطأة على الكذب و الاتفاق على الغلط و لا يعرض في خبرهم شك و لا توهم فيكون من أوله من أخبار الآحاد و في أخره من أخبار التواتر فيصير مخالفا لأخبار الاستفاضة في أوله و موافقا لها في آخره و يكون الفرق بين خبر الاستفاضة و خبر التواتر من ثلاثة أوجه : .
أحدها : ما ذكرناه من اختلافهما في الابتداء و الانتهاء .
و الثاني : أن أخبار الاستفاضة قد تكون عن غير قصد و أخبار التواتر لا تكون إلا عن قصد .
و الثالث : أن أخبار الاستفاضة لا يعتبر فيها عدالة المخبرين و يعتبر في أخبار التواتر عدالة المخبرين ثم يستوي الخبران في انتفاء الشك عنهما و وقوع العلم بهما .
و مثال الاستفاضة في أحكام الشرع أعداد الصلوات و مثال التواتر في أحكام الشرع نصب الزكوات و اختلف في وقوع العلم بهما هل هو علم اضطرار أو علم اكتساب على وجهين : .
أحدهما : أنه علم اكتساب وقع عن استدلال : و هوقول بعض أصحاب الشافعي و بعض المتكلمين لأن العلم بخبرهم يقترن بصفات تختص بهم فصار طلب الصفات استدلالا يوصل إلى العلم بخبرهم .
و اختلف القائلون بهذا : هل اكتسب العلم به من الخبر أو المخبر على وجهين أحدهما : من الخبر لأنه المقصود و الثاني : من المخبر لأنه المبلغ فهذا قول من جعله علم استدلال .
و الوجه الثاني : و هو قول الأكثرين من الفقهاء و المتكلمة : أنه علم اضطرار أدرك ببداية العقول لأن العلم به قد يسبق إلى اليقين من غير نظر و يستقر في القلوب من غير انتقال .
و اختلف القائلون بهذا في علمه بالاضطرار هل هو من فعل المخبر أو من فعل الله تعالى على وجهين : أحدهما : من فعل المخبر لوصوله إليه بنفسه و هو أكثر الفقهاء و الوجه الثاني : أنه من فعل الله تعالى لأنه الملجىء إليه و هو قول أكثر المتكلمين .
و اختلف من قال بهذا منهم على وجهين : أحدهما : أنه من فعل الله تعالى في الخبر و الثاني : أنه من فعله في المخبر و الذي أراه أولى أن أخبار الاستفاضة توجب علم الاضصرار و أخبار التواتر توجب علم الاستدلال لاستغناء الإفاضة عن نظر و احتياج التواتر إلى نظر مع و قوع العلم بهما و زعمت الإمامية أنه لا يقع العلم بأخبار الاستفاضة و التواتر إلا أن يكون في يكون في الخبرين إمام معصوم أو يصدقهم عليه إمام معصوم .
و حكي عن ضرار بن عمرو أن حجة الاستفاضة و التواتر لا تقوم بعد الرسل بنقل أقوالهم و أفعالهم إلا بإجماع الأمة على صدقهم أو صحة نقلهم و كلا القولين مدفوع بقضايا العقول لأنها تضطر إلى العلم بها كعلم الاضطرار بالمشاهدات و مدركات الحواس لأن الأخبار بالبلاد أن فيها مكة و الصين يعلم بالضطرار كما يعلم بالمشاهدة و كما يعلم الإنسان أن تحته أرضا و سماء فوقه لوجود أنفسنا عالمة بها على سواء و لما في غرائز الفطر من ذلك .
قال طفيل الغنوي و هو أعرابي بطبع سليم من التكلف و بديهة خلصت من التعمق و التعسف ما يدل على العلم بأخبار الاستفاضة و التواتر : .
( تأوبني هم من الليل منصب ... و جاء من الأخبار ما لا يكذب ) .
( تظاهرن حتى لم تكن لي ربية ... و لم يك فيما أخبروا متعقب ) .
أخبار الآحاد : .
و أما أخبار الآحاد فضربان : .
أحدهما : أن يقترن بها ما يوجب العلم بمضونها و قد يكون ذلك من خمسة أوجه : .
أحدها : أن يصدقه عليه من يقطع بصدقه كالرسول أو من أخبز الرسول بصدقه فيعلم به صدق المخبر و صحة الخبر .
و الثاني : أن تجتمع الأمة على صدقه فيعلم بإجماعهم أنه صادق في خبره .
و الثالث : : أن يجمعوا على قبوله و العمل به فيكون دليلا على صدق خبره .
و الرابع : أن يكون الخبر مضافا إلى حال قد شاهدها عدد كبير و سمعت رواية الخبر فلم ينكروه على المخبر فيدل على صحته و صدق المخبر .
و الخامس : أن يقترن بالخبر دلائل العقول فإن كان مضافا إليها كان صدقا لازما لأن ما وافقها لا يكون إلا حقا و إن كان مضافا إلى غيرها لم يدل موافقتها على صدق الخبر و إن أوجب صحة ما تضمنه الخبر .
و الضرب الثاني : أن ينفرد خبر الواحد عن قرينة تدل على صدقه فهي أمارة توجب عليه الظن و لا تقتضي العلم بقوى إذا تطاول به الزمان فلم يعارض برد و لا مخالفة و إن تكرر في معناها ما يوافقها صار جميعها متواترا و إن كان أفرادها آحادا و إذا استقر هذا الأصل في الأخبار و لم يخرج المروي من أعلام الرسول عنها و قد ذكرنا ما روي من أفعاله و سنذكر ما روي من أقواله : .
إخبار النبي عن اتساع ملك المسلمين : .
فمنها : ما روي عن النبي صلى الله تعالى عليه و سلم أنه قال : [ أزويت لي الأرض فأريت مشارقها و مغاربها و سيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها ] فصدق الله خبره و حقق ما ذكره و ملك أمته أقطار الأرض حتى دان له بشرعه من في المشرق و المغرب .
إخباره بفتح المدائن : .
و قال عليه السلام لعدي بن حاتم : [ لا يمنعك من هذا الدين ما ترى من جهد أهله و ضعف أصحابه فلكأنهم ببيضاء المدائن قد فتحت عليهم و لكأنهم بالظعينة تخرج من الحيرة حتى تأتي مكة بغير غفارة لا يخاف إلا الله فأبصر عدي ذلك كله و هذا لا يكون إلا من إطلاع الله تعالى على غيبه و تحقيقه لوعده في قوله : { ليظهره على الدين كله } ] .
إخباره عن فتح الشام و فارس و اليمن : .
و من أعلامه : ما رواه البراء بن عازب قال : [ أمرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم بحفر الخنذق فعرضت لنا صخرة عظيمة لا يأخذ فيها المعول فأخذ المعول و قال : بسم الله و ضرب ضربة فكسر ثلثها و قال الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر و قال : الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس ثم ضرب الثالثة فقطه بقية الحجر و قال : الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن فصدق الله قوله و أعطاه ما فتح له ] .
إخباره بفتح مصر : .
و روى كعب بن مالك قال : [ سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم يقول : إذا فتحت مصر فاستوصوا بالقبط خيرا فإن لهم رحما و ذمة ] يعني أن أم إسماعيل بن إبراهيم كانت منهم .
إخباره عن مقتل كسرى و زوال ملكه : .
و من أعلامه : أنه كتب إلى كسرى كتابا يدعوه إلى الإسلام و بدأ باسمه قبل اسمه فلما قرأه أنف لنفسه من ابتدائه باسمه فمزق كتابه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فقال : [ تمزق ملكه ] .
ثم كتب كسرى في الوقت إلى عامله باليمن باذان و يكنى أبا مهران : أن أحمل إلي هذا الذي يذكر أنه نبي و بدأ باسمه قبل اسمه و دعاني إلى غير ديني فبعث إليه فيروز بن الديلمي مع جماعة من أصحابه و كتب معهم كتابا يذكر فيه ما كتب به كسرى .
فأتاه فيزور بمن معه و قال له : إني ربي يعني كسرى أمرني أن أحملك إليه فاستنظره ليلة فلما كان من الغد حضر فيزور فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : [ أخبرني ربي أنه قتل ربك البارحة سلط عليه ابنه شيرويه على سبع ساعات من الليل فأمسك ريثما الخبر ] فراع ذلك فيزور و هاله .
و عاد فيزور إلى باذان فأخبره فقال له باذان كيف وجدت نفسك حين دخلت إليه فقال : و الله ما هبت أحدا قط كهيبة هذا الرجل فقال باذان : إن كان ما قاله حقا فهو نبي فلم يرعه إلا ورود الخبر عليه بقتله في تلك الليلة من تلك الساعة فأسلم باذان و فيزور و من معهم من الأبناء .
و ظهر العنسي بما افتراه من الكذب فأرسل فيزوزر أن اقتله قتله الله فقتله و في هذا الخبر من آيات الغيوب ما لا يعلمه إلا الله أو من أطلعه عليه .
بشارته لسراقة بأنه سيلبس سواري كسرى : .
و من أعلامه : أنه رأى ذراعي سراقة بن مالك بن جعشم دقيقين أشعرين فقال : كيف بك إذا ألبست بعدي سواري كسرى فلما فتحت فارس دعاه عمر و ألبسه سواري كسرى و قال له : قل الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز و ألسبهما سراقة بن جعشم .
إخباره عن وفاة النجاشي : .
و من أعلامه : ما رواه جابر بن عبد الله قال : [ صلى بنا رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم ثم قال : إن النجاشي أصحمة قد توفي هذه الساعة فاخرجوا بنا إلى المصلى نصلي عليه فصلى عليه و كبر أربعا فقال المنافقون : أنظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط فأنزل الله تعالى : { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم } الآية ثم جاء الخبر بموت النجاشي من تجار و ردوا من المدينة ] .
و مثله ما روي أن ريحا هبت بتبوك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا موت منافق عظيم النفاق قد مات في ذلك الوقت .
إخباره عن انتصار العرب بذي قار : .
و من أعلامه : أنه قال لأصحابه : [ اليوم نصرت العرب على العجم و بي نصروا ] فجاء خبر الوقيعة بذي قار و ما دال الله تعالى فيه العرب من العجم حين قتلت فيه بنو شيبان و بكر بن وائل من الفرس من قتلوا و كان أول يوم انتصف فيه العرب على العجم و جاءهم الخبر أنه كان في الساعة من اليوم الذي أخبر به رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم .
إخباره ما جرى في معركة مؤتة : .
و من أعلامه : [ أنه كشف الله تعالى له ما غاب عنه في جيش مؤتة فقال لأصحابه : أخذ الراية زيد بن حارثة و تقدم فقتل و مات شهيدا ثم أخذ الراية بعده جعفر بن أبي طالب و تقدم فقتل و مات شهيدا و وقف وقفة ثم قال و أخذ الراية بعده عبد الله بن رواحة و تقدم فقتل و مات شهيدا لأن عبد الله بن رواحة توقف عن أخذ الراية بعد قتل جعفر زمانا ثم أخذها قال : ثم ارتضى المسلمون خالد بن الوليد فكشف العدو عنهم حتى خلصوا ثم قام إلى بيت جعفر بن أبي طالب فاستخرج ولده و دمعت عيناه و نعى جعفر إلى أهله ] و جاءت الأخبار : بأنهم قتلوا في ذلك اليوم على ما وصفه .
إخباره عن قافلة بعيدة : .
و من أعلامه : [ قوله في ليلة الإسراء حين أصبح مررت بعير بني فلان فوجدت القوم نياما و إذا إناء فيه ماء و قد غطوا عليه فكشفت غطاءه و شربت ما فيه و رددت الغطاء كما كان و آية ذلك أن عيرهم الآن تقبل من موضع كذا يقدمها جمل أورق عليه غرارتان إحدهما : سوداء و الأخرى ورقاء فابتدر القوم الثنية فوجدوا ما وصف و سألهم عن الإناء فوجدوا الأمر كما قال ] .
إخباره عن مقتل علي و عمار Bهما : .
و من أعلامه : [ أنه رأى عليا كرم الله وجهه في غزاة العشيرة على التراب و معه عمار فقال لهما : ألا أخبركما بأشقى الناس ؟ قالا : بلى قال : أشقى الناس أحمر ثمود و عاقر الناقة و الذي يخضب يا علي هذه من هذه و أشار إلى لحيته من رأسه و قال لعمار : تقتلك الفئة الباغية و آخر زادك من الدنيا صاع من لبن ] فكان من قتل ابن ملجم لعنه الله لعلي كرم الله وجهه ما كان و قتل عمار يوم صفين فلما ذكر الخبر لمعاوية لم ينكره و دفعه عن نفسه بأنه قال : إنما قتله من جاء به .
إخباره عن قطع يد زيد بن صوجان : .
و مثله ما روي : [ أن النبي صلى الله تعالى عليه و سلم ذكر زيد صبوحان فقال : زيد و ما زيد يسبقه عضو منه إلى الجنة قطعت يده يوم نهاوند في سبيل الله و قال : الخلافة بعدي ثلاثون و ما بعد ذلك ملك ] .
إخباره عن وجود ماء مع أعرابية بعيدة .
نوع من آخر من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم : [ أنه نزل بجيشه في غزوة تبوك على غير ماء و هم نحو من ثلاثين ألفا فعطشوا و شكوا ذلك إليه فبعث أبا قتادة و أبا طلحة و سماك بن خرشنة و سعد بن عبادة يلتمسون الماء فغابوا إلى قائم الظهيرة ثم رجعوا و لم يجدوا شيئا و بلغ العطش من الناس و الخيل و الدواب فصلى بأصحابه متيمما فلما فرغ شكوا إليه العطش فبعث أسيد بن حضير و أسامة يلتمسون الماء من الأعراب .
فقال المنافقون إن محمدا يخبر بأخبار السماء و هو لا يدري الطريق إلى الماء فأتاه جبريل عليه السلام فأخبره بقولهم و سماهم له فشكا ذلك إلى سعد بن عبادة فقال سعد : إن شئت ضربت أعناقهم .
فقال : لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه و لكن نحسن صحبتهم ما أقاموا معنا ثم قال لأبي الهيثم بن التيهان و أبي قتادة و سهيل بن بيضاء يستعرضون الطريق و يأخذون على الكثيب فتقفوا ساعة فإن عجوزا من الأعراب تمر بكم على ناقة لها معها سقاء من ماء فأطعموها و اشتروا منها بما عز و هان و جيئوا بها مع الماء فمضوا حتى بلغوا الموضع الذي وصف لهم فإذا بالمرأة فقالوا : تبيعنا هذه الماء قالت : أنا و أهلي أحوج إلى الماء منكم فطلبوا إليها أن تأتي رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم مع الماء فأبت و قالت : إن هذا لساحر خير الأشياء أن لا أراه و لا يراني فشدوها وثاقا حتى جاءوا بها مع الماء .
فلما وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : خلوا عنها و قال لها : تبيعين هذا الماء ؟ قالت : إن أهلي أحوج إليه منكم قال : فائذني لنا فيه و ليصيرن ذلك كما جئت به قالت : شأنكم .
فقال لأبي قتادة : هات الميضاة فقربت إليه فحل السقاء و تفل فيه و صب في الميضاة ماء قليلا ظنا أن يكون نصف الميضاة فوضع يده فيه ثم قال : ادنوا فخذوا فجعل الماء يزيد و الناس يأخذون حتى ما أبقوا معهم سقاء إلا ملأوه و أرووا خيلهم و إبلهم و الميضاة ملأى ثم زاد رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم في السقاء حتى ملأه و بقي في الميضاة ثلثاه ثم توضأوا كلهم حين أصبحوا و هو يزيد و لا ينقص ] .
إخباره عن مكان ناقة ضلت : .
[ و من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم : أن ناقة له ضلت في توجهه إلى تبوك فتفرق الناس في طلبها و كان عنده عمارة بن حزم و في رحل عمارة زيد بن اللصيت و كان يهوديا قد أسلم و نافق فقال زيد في رحل عمارة : يزعم محمد أنه نبي يخبركم خبر السماء و هو لا يدري أين ناقته .
فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : إن منافقا يقول أليس محمد يزعم أنه نبي و يخبركم بخبر السماء و لا يدري أين ناقته و الله لا أعلم إلا ما علمني ربي و قد أعلمني أنها في الوادي في شعب كذا حبستها سمرة بزمامها فبادر الناس فوجدوها كذلك فأتوه بها .
فرجع عمارة بن حزم إلى رحله و قال : لقد عجبت مما ذكره رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فقال رجل : كان في رحله مع زيد بن اللصيت : أن زيدا قال هذا قبل أن تطلع علينا فوجأ عمارة زيدا في عنقه و قال : إنك لداهية في رحلي اخرج يا عدو الله منه .
و لأجل ما لقيه في غزوة تبوك من الجهد قال لأصحابه : ألا أسركم قالوا : بلى يا رسول الله قال : إن الله تعالى أعطاني الليلة الكنزين فارس و الروم و أمدني بالملوك ملوك حمير يجاهدون في سبيل الله و يأكلون فيء الله فكان ذلك ] .
إخباره خالد بن الوليد عما سيحصل له مع الأكيدر : .
[ و من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم : أنه بعث خالد بن الوليد من تبوك في أربعمائة و عشرين فارسا إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل من كندة فقال خالد : يا رسول الله كيف لي به وسط بلاد كلب و إنما أنا في عدد يسير ؟ فقال : ستجده يصيد البقر فتأخذه .
فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين في ليلة قمراء صائفة و هو على سطح له من شدة الحر مع امرأته فأقبلت البقر تحك بقرونها باب الحصن .
فقال أكيدر : و الله ما رأيت بقرا جاءتنا ليلا غير هذه الليلة لقد كنت أضمر لها الخيل إذا أردتها شهرا و أكثر ثم نزل فركب بالرجال و الآلة فلما فصلوا من الحصن و خيل خالد تنظر إليهم لا يصهل منهافرس و لا يتحرك فساعة فصل أخذته الخيل فاستؤسر أكيدر ] .
إخباره علي بن أبي طالب عن موقف لم يحصل بعد : .
[ و من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم : أنه لما قاضى سهيل بن عمرو بالحديبية حين صدته قريش عن العمرة و كتبت بينه و بينه القضية .
قال لعلي كرم الله تعالى وجهه : اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو .
فقال سهيل : لو أعلم أنك رسول الله ما صددتك و لكن أقدمك لشرفك أكتب محمد بن عبد الله فقال يا علي : أمح رسول الله فقال علي : لا أستطيع أن أمحو اسمك من النبوة .
فمد رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم يده إلى الموضع فمحاه فقال لعلي : ستسام مثلها فتجيب فقيل له مثلها يوم الحكمين حين ذكر في كتاب التحكيم هذا ما تحاكم عليه علي أمير المؤمنين فقال له عمرو : و لو أنك أمير المؤمنين ما نازعناك فمحا أمير المؤمنين و لما قال سهيل ذلك قال عمر : يا رسول الله دعني أنزع ثنيتي سهيل لنلثغ لسانه فلا يقوم علينا خطيبا أبدا .
و كان سهيل أعلم الشفة السفلى فكان خطيبا بينا : فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : دعه يا عمر فعسى أن يقوم لك مقاما تحمده فكان من حسن قيامه بمكة حين هاج أهلها بموت رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم و استخفى عتاب بن أسيد ما حمد أثره ] .
إخباره عن رجل منافق سيأتي مجلسه : .
[ و من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم : ما حكاه السدي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم قال لأصحابه : يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان فأتاه الحطم بن هند البكري وحده و خلف خيله خارجة من المدينة فدعاه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إلام تدعو ؟ فأخبره فقال : انظرني فلي من أشاوره فخرج من عنده فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : لقد دخل بوجه كافر و خرج بعتب غادر فمر بسرح من سرح المدينة فاستاقه و انطلق مرتجزا يقول : .
( لقد لفها الليل سواق حطم ... ليس براعي إبل و لا غنم ) .
( و لا بجزار على ظهر وضم ... باتوا نياما و ابن هند لم ينم ) .
( باتت يناسيها غلام كالزلم ... مدلج الساقين ممسوح القدم ) .
ثم أقبل عام قابل حاجا قد قلد الهدي فأراد رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم أن يبعث إليه فنزل عليه قوله تعالى : { لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام } فقال له ناس من أصحابه هذا صاحبنا خل بيننا و بينه فقال إنه قد قلد ] .
نوع آخر من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم .
إخباره عن حديث سري بين اثنين من الكفار : .
[ روى عاصم بن عمرو عن قتادة قال : لما رجع المشركون إلى مكة من بدر قال عمير بن وهب الجمحي لصفوان بن أمية : قبح الله العيش بعد قتلى بدر و الله لولا دين علي لا أجد له قضاء و عيال لا أدع لهم شيئا لرحلت إلى محمد حتى أقتله إن ملأت عيني منه قتلته فإنه بلغني أنه يطوف في الأسواق .
فقال له صفوان : دينك علي و عيالك أسوة عيالي فاعمد لشأنك فجهزه و حمله على بعير فشحذ عمير سيفه و سمه و سار إلى المدينة فدخلها متقلدا سيفه فبصر به عمر رضي الله تعالى عنه فوثب إليه و وضع حمائل سيفه في عنقه و أدخله على رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم و قال : هذا عدو الله عمير بن وهب .
فقال : تأخر عنه يا عمر ثم قال له : ما أقدمك ؟ قال : لفداء أسيري عندكم قال : فما بال السيف ؟ قال : قبحها الله و هل أغنت من شيء ؟ و إنما نسيته حين نزلت و هو في رقبتي فقال له : فما شرطت لصفوان بن أمية في الحجر ؟ ففزع عمير و قال : ماذا شرطت له ؟ قال : تحملت له بقتلي على أن يقضي دينك و يعول عيالك و الله تعالى حائل بيني و بين ذلك .
فقال عمير : اشهد أنك لرسول الله و أنك صادق و أشهد أن لا إله إلا الله كنا نكذبك بالوحي من السماء و هذا الحديث كان سرا بيني و بين صفوان كما قلت لم يطلع عليه أحد غيري .
فقال عمر : و الله لخنزير كان أحب إلي منه حين طلع و هو الساعة أحب إلي من بعض ولدي .
فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : علموا أخاكم القرآن و أطلقوا له أسيره .
فقال عمير : إني كنت جاهدا في إطفاء نور الله و قد هداني الله فله الحمد فائذن لي فألحق قريشا فأدعوهم إلى الله و الإسلام فأذن له فلحق بمكة و دعاهم فأسلم بشر كثير و حلف صفوان أن لا يكلمه أبدا ] .
إخباره عن حديث النفس : .
[ و من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم : ما حكاه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة قال : ما كان أحد أبغض إلي من رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم و كيف لا يكون كذلك و قد قتل منا ثمانية كل منهم يحمل اللواء فلما فتح الله تعالى مكة يئست مما كنت أتمناه من قتله و قلت في نفسي قد دخلت العرب في دينه فمتى أدرك ثأري منه ؟ فلما اجتمعت هوازن بحنين قصدتهم لأجد منه غرة فأقتله .
فلما انهزم الناس عنه و بقي مع من ثبت معه جئت من ورائه فرفعت السيف حتى كدت أحطه غشي فؤادي و رفع لي شواظ من نار فلم أطق ذلك و علمت أنه ممنوع فالتفت إلي و قال : ادن يا شيب فقاتل و وضع يده في صدري فصار أحب الناس إلي و تقدمت فقاتلت بين يديه و لو عرض لي أبي لقتلته في نصرته فلما انقضى القتال دخلت عليه فقال لي : الذي أراد الله بك خير مما أردته لنفسك و حدثني بجميع ما زورته في نفسي فقلت ما اطلع على هذا أحد إلا الله فأسلمت ] .
النبي يخبر النضير عما حدثته نفسه : .
[ و من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم : ما رواه محمد بن إبراهيم بن شرحبيل عن أبيه قال : كان النضير بن الحرث بن كلدة يصف شدة عداوته لرسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم لقتله لأخيه النضر بن الحرث قال : كنت شهدت بدرا فرأيت قلة المسلمين و كثرة قريش فلما نشب القتال رأيت المسلمين أضعاف قريش فانهزمت قريش و رأيت يومئذ رجالا على خيل بلق بين السماء و الأرض معلمين يأسرون و يقتلون فهربت مذعورا ثم خرجت معه بعد الفتح إلى هوازن لأصيب منه غرة فلما انهزم المسلمون صعدت لرسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم فإذا هو في وجه العدو واقف على بغلة شهباء حوله رجال بيض الوجوه فأقبلت عامدا إليه فصاحوا بي إليك إليك فرعب فؤادي و أرعدت جوارحي فقلت هذا مثل يوم بدر إن الرجل لعلى حق و أنه معصوم فأدخل الله في قلبي الإسلام ثم التقيت برسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم بعد رجوعه من الطائف فحين رآني قال : النضير ؟ قلت : لبيك قال : هذا خير لك مما أردت يوم حنين ما حال الله بينك و بينه ] .
النبي يحدث عمه العباس عن شيء أسره : .
[ و من أعلامه صلى الله عليه و سلم : انه قال لعمه العباس و قد أسر يوم بدر إفد نفسك و ابني أخيك عقيلا و نوفلا و حليفك فإنك ذو مال فقال يا رسول الله : إني كنت مسلما و أخرجت مكرها .
فقال : الله أعلم بإسلامك ! فأين المال الذي وضعته بمكة عند أم الفضل حين خرجت و ليس معكما أحد ؟ فقلت إن أصبت في سفري فللفضل كذا و لعبد الله كذا و لقلثم كذا .
فقال : و الذي بعثك بالحق ما علم بهذا أحد غيري و غيرها و إني لأعلم أنك رسول الله ففدى نفسه و ابني أخيه و حليفه فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله سيعوضك خيرا إن كان ما قلته من إسلامك حقا فعوضه الله تعالى مالا جما ] .
وصف النبي امرأة بأنها شهيدة قبل أن تقتل : .
[ و من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم : ما روي عن النبي صلى الله تعالى عليه و سلم كان إذا أراد الذهاب إلى أم فروة الأنصارية قال لأصحابه : انطلقوا بنا إلى الشهيدة فنزورها و أمر أن يؤذن لها و يقام و أن تؤم أهل دارها في الفرائض فقتلها في أيام عمر رضي الله تعالى عنه غلام و جارية كانا لها فصلبها عمر Bه فكانا أول من صلب في الإسلام فقال عمر : صدق رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : كان يقول انطلقوا نزور الشهيدة ] .
لام النبي الزبير ما فعله خفية : .
[ و من أعلامه صلى الله تعالى عليه و سلم : مارواه عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال : أتيت النبي صلى الله تعالى عليه و سلم و هو يحتجم فلما فرغ قال : يا عبد الله اذهب بهذا الدم فاهرقه حيث لا يراك أحد فلما برز عنه عمد إلى الدم فحساه .
فلما رجع قال : يا عبد الله ما صنعت ؟ قال : جعلته في أخفى مكان ظننت أنه خاف عن الناس .
قال لعلك شربت الدم قال : نعم قال : ويل للناس منك و ويل لك من الناس ] .
إلى أمثال ذلك من نظائره التي يطول الكتاب بذكره حتى كان المنافقون لا يخوضون في شيء من أمره إلا أطلعه الله عليه فكان يخبرهم به حتى كان بعضهم يقول لصاحبه اسكت و كف فو الله لو لم يكن عنده إلا الحجارة لأخبرته حجارة البطحاء .
الفرق بين إخبار النبي عليه السلام و إخبار المنجم : .
فإن قيل : فليس في ذكر ما كان و يكون إعجاز نبوة يقهر و لا آية رسالة تظهر لأن المنجمين يخبرون بذلك و لا يكون من إعجاز الأنبياء و آيات الرسل .
فعنه ثلاثة أجوبة : أحدها أن المنجم يعمل على حساب و يرجع على استدلال و لا يبتكر قولا إلا بعدهما و إخبار الرسل عن بديهة تخلو من سبب و تعرى عن استدلال .
و الثاني : أن من خلا من علم النجوم لم يصح الإخبار عنها و لم يتعاط محمد صلى الله عليه و سلم على النجوم و لا خالط أهلها فيكون مخبرا عنها فبطل أن يخبر بها إلا عن علام الغيوب المطلع على ضمائر القلوب .
و الثالث : أن المنجم يصيب في الأقل و يخطىء في الأكثر و يستحسن منه الصواب و لا يستقبح منه الخطأ و إخبار الرسل كلها صدق لا يتخلله كذب و صواب لا يعتروه زلل