التعاون على تهيئة أسباب المطعم والملبس ولتربية الولد فإن الاجتماع يفضي إلى الولد لا محالة والواحد لا يشتغل بحفظ الولد وتهيئة أسباب القوت ثم ليس يكفيه الاجتماع مع الأهل والولد في المنزل بل لا يمكنه أن يعيش كذلك ما لم تجتمع طائفة كثيرة ليتكفل كل واحد بصناعة فإن الشخص الواحد كيف يتولى الفلاحة وحده وهو يحتاج إلى آلاتها وتحتاج الآلة إلى حداد ونجار ويحتاج الطعام إلى طحان وخباز وكذلك كيف ينفرد بتحصيل الملبس وهو يفتقر إلى حراسة القطن وآلات الحياكة والخياطة وآلات كثيرة فلذلك امتنع عيش الإنسان وحده وحدثت الحاجة إلى الاجتماع ثم لو اجتمعوا في صحراء مكشوفة لتأذوا بالحر والبرد والمطر واللصوص فافتقروا إلى أبنية محكمة ومنازل ينفرد كل أهل بيت به وبما معه من الآلات والأثاث والمنازل تدفع الحر والبرد والمطر وتدفع أذى الجيران من اللصوصية وغيرها لكن المنازل قد تقصدها جماعة من اللصوص خارج المنازل فافتقر أهل المنازل إلى التناصر والتعاون والتحصن بسور يحيط بجميع المنازل فحدثت البلاد لهذه الضرورة .
ثم مهما اجتمع الناس في المنازل والبلاد وتعاملوا تولدت بينهم خصومات إذ تحدث رياسة وولاية للزوج على الزوجة وولاية للأبوين على الولد لأنه ضعيف يحتاج إلى قوام به ومهما حصلت الولاية على عاقل أفضى إلى الخصومة بخلاف الولاية على البهائم إذ ليس لها قوة المخاصمة وإن ظلمت .
فأما المرأة فتخاصم الزوج والولد يخاصم الأبوين هذا في المنزل .
وأما أهل البلد أيضا فيتعاملون في الحاجات ويتنازعون فيها ولو تركوا كذلك لتقاتلوا وهلكوا وكذلك الرعاة وأرباب الفلاحة يتواردون على المراعي والأراضي والمياه وهي لا تفي بأغراضهم فيتنازعون لا محالة ثم قد يعجز بعضهم عن الفلاحة والصناعة بعمى أو مرض أو هرم وتعرض عوارض مختلفة ولو ترك ضائعا لهلك ولو وكل تفقده إلى الجميع لتخاذلوا ولو خص واحد من غير سبب يخصه لكان لا يذعن له فحدث بالضرورة من هذه العوارض الحاصلة بالاجتماع صناعات أخرى .
فمنها صناعة المساحة التي بها تعرف مقادير الأرض لتمكن القسمة بينهم العدل .
ومنها صناعة الجندية لحراسة البلد بالسيف ودفع اللصوص عنهم .
ومنها صناعة الحكم والتوصل لفصل الخصومة ومنها الحاجة إلى الفقه وهو معرفة القانون الذي ينبغي أن يضبط به الخلق ويلزموا الوقوف على حدوده حتى لا يكثر النزاع وهو معرفة حدود الله تعالى في المعاملات وشروطها .
فهذه أمور سياسية لا بد منها ولا يشتغل بها إلا مخصوصون بصفات مخصوصة من العلم والتمييز والهداية وإذا اشتغلوا بها لم يتفرغوا لصناعة أخرى ويحتاجون إلى المعاش ويحتاج أهل البلد إليهم إذ لو اشتغل أهل البلد بالحرب مع الأعداء مثلا تعطلت الصناعات ولو اشتغل أهل الحرب والسلاح بالصناعات لطلب القوت تعطلت البلاد عن الحراس واستضر الناس فمست الحاجة إلى أن يصرف إلى معايشهم وأرزاقهم الأموال الضائعة التي لا مالك لها إن كانت أو تصرف الغنائم إليهم إن كانت العداوة مع الكفار فإن كانوا أهل ديانة وورع قنعوا بالقليل من أموال المصالح وإن أرادوا التوسع فتمس الحاجة لا محالة إلى أن يمدهم أهل البلد بأموالهم ليمدوهم بالحراسة فتحدث الحاجة إلى الخراج ثم يتولد بسبب الحاجة إلى الخراج الحاجة لصناعات أخر إذ يحتاج إلى من يوظف الخراج بالعدل على الفلاحين وأرباب الأموال وهم العمال وإلى من يستوفي منهم بالرفق وهم الجباة والمتخرجون وإلى من يجمع عنده ليحفظه إلى وقت التفرقة وهم الخزان وإلى من يفرق عليهم بالعدل وهو الفارض للعساكر وهذه الأعمال لو تولاها عدد لا تجمعهم رابطة انخرم النظام فتحدث منه الحاجة إلى ملك يدبرهم وأمير مطاع يعين لكل عمل شخصا ويختار لكل واحد ما يليق به ويراعي النصفة في أخذ الخراج وإعطائه واستعمال الجند في الحرب وتوزيع أسلحتهم وتعين جهات الحرب ونصب الأمير والقائد على كل