وقالت فرقة لا ينعدم أصله ولكن يجري في القلب ولا يكون له أثر لأن القلب إذا صار مستوعبا بالذكر كان محجوبا عن التأثر بالوسوسة كالمشغول بهمه فإنه قد يتكلم ولا يفهم وإن كان الصوت يمر على سمعه .
وقالت فرقة لا تسقط الوسوسة ولا أثرها أيضا ولكن تسقط غلبتها للقلب فكأنه يوسوس من بعد وعلى ضعف .
وقالت فرقة ينعدم عند الذكر في لحظة وينعدم الذكر في لحظه ويتعاقبان في أزمنة متقاربة يظن لتقاربها أنها متساوقة وهي كالكرة التي عليها نقط متفرقة فإنك إذا أدرتها بسرعة تواصلها بالحركة واستدل هؤلاء بأن الخنس قد ورد ونحن نشاهد الوسوسة مع الذكر ولا وجه له إلا هذا .
وقالت فرقة الوسوسة والذكر يتساوقان في الدوام على القلب تساوقا لا ينقطع وكما أن الإنسان قد يرى بعينيه شيئين في حالة واحدة فكذلك القلب قد يكون مجرى لشيئين فقد قال A ما من عبد إلا وله أربعة أعين عينان في رأسه يبصر بهما أمر دنياه وعينان في قلبه يبصر بهما أمر دينه // حديث ما من عبد إلا وله أربعة أعين عينان في رأسه يبصر بهما أمر دنياه وعينان في قلبه يبصر بهما أمر دينه أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث معاذ بلفظ الآخرة مكان دينه وفيه الحسين بن أحمد بن محمد الهروي السماخي الحافظ كذبه الحاكم والآفة منه وإلى هذا ذهب المحاسبي والصحيح عندنا أن كل هذه المذاهب صحيحة ولكن كلها قاصرة عن الإحاطة بأصناف الوسواس وإنما نظر كل واحد منهم إلى صنف واحد من الوسواس فأخبر عنه .
والوسواس أصناف .
الأول أن يكون من جهة التلبيس بالحق فإن الشطيان قد يلبس بالحق فيقول للإنسان تترك التنعم باللذات فإن العمر طويل والصبر عن الشهوات طول العمر ألمه عظيم فعند هذا إذا ذكر العبد عظيم حق الله تعالى وعظيم ثوابه وعقابه وقال لنفسه الصبر عن الشهوات شديد ولكن الصبر على النار أشد منه ولا بد من أحدهما فإذا ذكر العبد وعد الله تعالى ووعيده وجدد إيمانه ويقينه خنس الشيطان وهرب إذ لا يستطيع أن يقول له النار أيسر من الصبر على المعاصي ولا يمكنه أن يقول المعصية لا تفضي إلى النار فإن إيمانه بكتاب الله D يدفعه عن ذلك فينقطع وسواسه وكذلك يوسوس إليه بالعجب بعمله فيقول أي عبد يعرف الله كما تعرفه ويعبده كما تعبده فما أعظم مكانك عند الله تعالى فيتذكر العبد حينئذ أن معرفته وقلبه وأعضاءه التي بها عمله وعلمه كل ذلك من خلق الله تعالى فمن أين يعجب به فيخنس الشيطان إذ لا يمكنه أن يقول ليس هذا من الله فإن المعرفة والإيمان يدفعه فهذا نوع من الوسواس ينقطع بالكلية عن العارفين المستبصرين بنور الإيمان والمعرفة .
الصنف الثاني أن يكون وسواسه بتحريك الشهوة وهيجانها وهذا ينقسم إلى ما يعلم العبد يقينا أنه معصية وإلى ما يظنه بغالب الظن فإن علمه يقينا خنس الشيطان عن تهييج يؤثر في تحريك الشهوة ولم يخنس عن التهييج وإن كان مظنونا فربما يبقى مؤثرا بحيث يحتاج إلى مجاهدة في دفعه فتكون الوسوسة موجودة ولكنها مدفوعة غير غالبة .
الصنف الثالث أن تكون وسوسة بمجرد الخواطر وتذكر الأحوال الغالبة والتفكر في غير الصلاة مثلا فإذا أقبل على الذكر تصور أن يندفع ساعة ويعود ويندفع ويعود فيتعاقب الذكر والوسوسة ويتصور أن يتساوقا جميعا حتى يكون الفهم مشتملا على فهم معنى القراءة وعلى تلك الخواطر كأنهما في موضعين من القلب وبعيد جدا أن يندفع هذا الخنس بالكلية بحيث لا يخطر ولكنه ليس محالا إذا قال A من صلى ركعتين لم يحدث فيهما