السموات والأرض كتب نسخة العالم من أوله إلى آخره في اللوح المحفوظ ثم أخرجه إلى الوجود على وفق تلك النسخة والعالم الذي خرج إلى الوجود بصورته تتأدى منه صورة أخرى إلى الحس والخيال فإن من ينظر إلى السماء والأرض ثم يغض بصره يرى صورة السماء والأرض في خياله حتى كأنه ينظر إليها ولو انعدمت السماء والأرض وبقي هو في نفسه لوجد صورة السماء والأرض في نفسه كأنه يشاهدهما وينظر إليهما ثم يتأدى من خياله أثر إلى القلب فيحصل فيه حقائق الأشياء التي دخلت في الحس والخيال والحاصل في القلب موافق للعالم الحاصل في الخيال والحاصل في الخيال موافق للعالم الموجود في نفسه خارجا من خيال الإنسان وقلبه والعالم الموجود موافق للنسخة الموجودة في اللوح المحفوظ .
فكأن للعالم أربع درجات في الوجود وجود في اللوح المحفوظ وهو سابق على وجوده الجسماني ويتبعه وجوده الحقيقي ويتبع وجوده الحقيقي وجوده الخيالي أعني وجود صورته في الخيال ويتبع وجوده الخيالي وجوده العقلي أعني وجود صورته في القلب .
وبعض هذه الوجودات روحانية وبعضها جسمانية والروحانية بعضها أشد روحانية من البعض وهذا اللطف من الحكمة الإلهية إذ جعل حدقتك على صغر حجمها بحيث تنطبع صورة العالم والسموات والأرض على اتساع أكنافها فيها ثم يسري من وجودها في الحس وجود إلى الخيال ثم منه وجود في القلب فإنك أبدا لا تدرك إلا ما هو واصل إليك فلو لم يجعل للعالم كله مثالا في ذاتك لما كان لك خبر مما يباين ذاتك فسبحان من دبر هذه العجائب في القلوب والأبصار ثم أعمى عن دركها القلوب والأبصار حتى صارت قلوب أكثر الخلق جاهلة بأنفسها وبعجائبها .
ولنرجع إلى الغرض المقصود فنقول القلب قد يتصور أن يحصل فيه حقيقة العالم وصورته تارة من الحواس وتارة من اللوح المحفوظ كما أن العين يتصور أن يحصل فيها صورة الشمس تارة من النظر إليها وتارة من النظر إلى الماء الذي يقابل الشمس ويحكي صورتها فمهما ارتفع الحجاب بينه وبين اللوح المحفوظ رأى الأشياء فيه وتفجر إليه العلم منه فاستغنى عن الاقتباس من داخل الحواس فيكون ذلك كتفجر الماء من عمق الأرض ومهما أقبل على الخيالات الحاصلة من المحسوسات كان ذلك حجابا له عن مطالعة اللوح المحفوظ كما أن الماء إذا اجتمع في الأنهار منع ذلك من التفجر في الأرض وكما أن من نظر إلى الماء الذي يحكي صورة الشمس لا يكون ناظرا إلى نفس الشمس فإذن للقلب بابان باب مفتوح إلى عالم الملكوت وهو اللوح المحفوظ وعالم الملائكة وباب مفتوح إلى الحواس الخمس المتمسكة بعالم الملك والشهادة وعالم الشهادة والملك أيضا يحاكي عالم الملكوت نوعا من المحاكاة فأما انفتاح باب القلب إلى الاقتباس من الحواس فلا يخفى عليك وأما انفتاح بابه الداخل إلى عالم الملكوت ومطالعة اللوح المحفوظ فتعلمه علما يقينيا بالتأمل في عجائب الرؤيا واطلاع القلب في النوم على ما سيكون في المستقبل أو كان في الماضي من غير اقتباس من جهة الحواس وإنما ينفتح ذلك الباب لمن انفرد بذكر الله تعالى وقال A سبق المفردون قيل ومن هم المفردون يا رسول الله قال المتنزهون بذكر الله تعالى وضع الذكر عنهم أوزارهم فوردوا القيامة خفافا ثم قال في وصفهم إخبارا عن الله تعالى فقال ثم أقبل بوجهي عليهم أترى من واجهته بوجهي يعلم أحد أي شيء أريد أن أعطيه ثم قال تعالى أول ما أعطيهم أن أقذف النور في قلوبهم فيخبرون عني كما أخبر عنهم // حديث سبق المفردون قيل ومن هم قال المستهترون بذكر الله الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة مقتصرا على أول الحديث وقال فيه وما المفردون قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات ورواه الحاكم بلفظ قال الذين يستهترون بذكر الله وقال صحيح على شرط الشيخين وزاد فيه البيهقي في الشعب يضع الذكر عنهم أثقالهم ويأتون يوم القيامة خفافا ورواه هكذا الطبراني في المعجم الكبير من حديث أبي الدرداء دون الزيادة التي ذكرها المصنف في آخره وكلاهما ضعيف ومدخل