إذ لا يمكن التقرب بالغريزة الفطرية ولا بالعلوم الضرورية بل بالمكتسبة ولكن مثل علي Bه هو الذي يقدر على التقرب باستعمال العقل في اقتناص العلوم التي بها ينال القرب من رب العالمين فالقلب جار مجرى العين وغريزة العقل فيه جارية مجرى قوة البصر في العين وقوة الإبصار لطيفة تفقد في العمى وتوجد في البصر وإن كان قد غمض عينيه أو جن عليه الليل والعلم الحاصل منه في القلب جار مجرى قوة إدراك البصر في العين ورؤيته لأعيان الأشياء وتأخر العلوم عن عين العقل في مدة الصبا إلى أوان التمييز أو البلوغ يضاهي تأخر الرؤية عن البصر إلى أوان إشراق الشمس وفيضان نورها على المبصرات والقلم الذي سطر الله به العلوم على صفحات القلوب يجرى مجرى قرص الشمس وإنما لم يحصل العلم في قلب الصبي قبل التمييز لأن لوح قلبه لم يتهيأ بعد لقبول نفس العلم والقلم عبارة عن خلق من خلق الله تعالى جعله سببا لحصول نقش العلوم في قلوب البشر قال الله تعالى الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم وقلم الله تعالى لا يشبه قلم خلقه كما لا يشبه وصفه وصف خلقه فليس قلمه من قصب ولا خشب كما أنه تعالى ليس من جوهر ولا عرض فالموازنة بين البصيرة الباطنة والبصر الظاهر صحيحة من هذه الوجوه إلا أنه لا مناسبة بينهما في الشرف فإن البصيرة الباطنة هي عين النفس التي هي اللطيفة المدركة وهي كالفارس والبدن كالفرس وعمى الفارس أضر على الفارس من عمى الفرس بل لا نسبة لأحد الضررين إلى الآخر .
ولموازنة البصيرة الباطنة للبصر الظاهر سماه الله تعالى باسمه فقال ما كذب الفؤاد ما رأى سمى إدراك الفؤاد رؤية وكذلك قوله تعالى وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وما أراد به الرؤية الظاهرة فإن ذلك غير مخصوص بإبراهيم عليه السلام حتى يعرض في معرض الامتنان ولذلك سمى ضد إدراكه عمى فقال تعالى فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وقال تعالى ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا فهذا بيان العلم العقلي .
أما العلوم الدينية فهي المأخوذة بطريق التقليد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه وذلك يحصل بالتعلم لكتاب الله تعالى وسنة رسوله A وفهم معانيهما بعد السماع وبه كمال صفة القلب وسلامته عن الأدواء والأمراض فالعلوم العقلية غير كافية في سلامة القلب وإن كان محتاجا إليها كما أن العقل غير كاف في استدامة صحة أسباب البدن بل يحتاج إلى معرفة خواص الأدوية والعقاقير بطريق التعلم من الأطباء إذ مجرد العقل لا يهتدي إليه ولكن لا يمكن فهمه بعد سماعه إلا بالعقل فلا غنى بالعقل عن السماع ولا غنى بالسماع عن العقل فالداعي إلى محض التقليد مع عزل العقل بالكلية جاهل والمكتفي بمجرد العقل عن أنوار القرآن والسنة مغرور فإياك أن تكون من أحد الفريقين وكن جامعا بين الأصلين فإن العلوم العقلية كالأغذية والعلوم الشرعية كالأدوية والشخص المريض يستضر بالغذاء متى فاته الدواء فكذلك أمراض القلوب لا يمكر علاجها إلا بالأدوية المستفادة من الشريعة وهي وظائف العبادات والأعمال التي ركبها الأنبياء صلوات الله عليهم لإصلاح القلوب فمن لا يداوي قلبه المريض بمعالجات العبادة الشرعية واكتفى بالعلوم العقلية استضر بها كما يستضر المريض بالغذاء وظن من يظن أن العلوم العقلية مناقضة للعلوم الشرعية وأن الجمع بينهما غير ممكن هو ظن صادر عن عمى في عين البصيرة نعوذ بالله منه بل هذا القائل ربما يناقض عنده بعض العلوم الشرعية لبعض فيعجز عن الجمع بينهما فيظن أنه تناقض في الدين فيتحير به فينسل من الدين انسلال الشعرة من العجين وإنما ذلك لأن عجزه في نفسه خيل إليه نقضا في الدين وهيهات وإنما مثاله مثال الأعمى الذي دخل دار قوم فتعثر فيها بأواني الدار فقال لهم ما بال هذه الأواني