الثالث أن يكون معدولا به عن جهة الحقيقة المطلوبة فإن قلب المطيع الصالح وإن كان صافيا فإنه ليس يتضح فيه جلية الحق لأنه ليس يطلب الحق وليس محاذيا بمرآته شطر المطلوب .
بل ربما يكون متسوعب الهم بتفصيل الطاعات البدنية أو بتهيئة أسباب المعيشة ولا يصرف فكره إلى التأمل في حضرة الربوبية والحقائق الخفية الإلهية فلا ينكشف له إلا ما هو متفكر فيه من دقائق آفات الأعمال وخفايا عيوب النفس إن كان متفكرا فيها أو مصالح المعيشة إن كان متفكرا فيها .
وإذا كان تقييد الهم بالأعمال وتفصيل الطاعات مانعا عن انكشاف جلية الحق فما ظنك فيمن صرف الهم إلى الشهوات الدنيوية ولذاتها وعلائقها فكيف لا يمنع عن الكشف الحقيقي .
الرابع الحجاب فإن المطيع القاهر لشهواته المتجرد الفكر في حقيقة من الحقائق قد لا ينكشف له ذلك لكونه محجوبا عنه باعتقاد سبق إليه منذ الصبا على سبيل التقليد والقبول بحسن الظن فإن ذلك يحول بينه وبين حقيقة الحق ويمنع من أن ينكشف في قلبه خلاف ما تلقفه من ظاهر التقليد وهذا أيضا حجاب عظيم به حجب أكثر المتكلمين والمتعصبين للمذاهب بل أكثر الصالحين المتفكرين في ملكوت السموات والأرض لأنهم محجوبون باعتقادات تقليدية جمدت في نفوسهم ورسخت في قلوبهم وصارت حجابا بينهم وبين درك الحقائق .
الخامس الجهل بالجهة التي يقع منها العثور على المطلوب فإن طالب العلم ليس يمكنه أن يحصل العلم بالمجهول إلا بالتذكر للعلوم التي تناسب مطلوبه حتى إذا تذكرها ورتبها في نفسه ترتيبا مخصوصا يعرفه العلماء بطرق الاعتبار فعند ذلك يكون قد عثر على جهة المطلوب فتنجلي حقيقة المطلوب لقلبه فإن العلوم المطلوبة التي ليست فطرية لا تقتنص إلا بشبكة العلوم الحاصلة بل كل علم لا يحصل إلا عن علمين سابقين يأتلفا ويزدوجان على وجه مخصوص فيحصل من ازدواجهما علم ثالث على مثال ما يحصل النتاج من ازدواج الفحل والأنثى .
ثم كما أن من أراد أن يستنتج رمكة لم يمكنه ذلك من حمار وبعير وإنسان بل من أصل مخصوص من الخيل الذكر والأنثى وذلك إذا وقع بينهما ازدواج مخصوص .
فكذلك كل علم فله أصلان مخصوصان وبينهما طريق في الازدواج يحصل من ازدواجهما العلم المستفاد المطلوب فالجهل بتلك الأصول وبكيفية الازدواج هو المانع من العلم .
ومثاله ما ذكرناه من الجهل بالجهة التي الصورة فيها بل مثاله أن يريد الإنسان أن يرى قفاه مثلا بالمرآة فإنه إذا رفع المرآة بإزاء وجهه لم يكن قد حاذى بها شطر القفا فلا يظهر فيها القفا وإن رفعها وراء القفا وحاذاه كان قد عدل بالمرآة عن عينه فلا يرى المرآة ولا صورة القفا فيها فيحتاج إلى مرآة أخرى ينصبها وراء القفا وهذه في مقابلتها بحيث يبصرها ويراعي مناسبة بين وضع المرآتين حتى تنطبع صورة القفا في المرآة المحاذية للقفا ثم تنطبع صورة هذه المرآة في المرآة الأخرى التي في مقابلة العين ثم تدرك العين صورة القفا فكذلك في اقتناص العلوم طرق عجيبة فيها ازورارات وتحريفات أعجب ما ذكرناه في المرآة يعز على بسيط الأرض من يهتدي إلى كيفية الحيلة في تلك الأزورارات .
فهذه هي الأسباب المانعة للقلوب من معرفة حقائق الأمور .
وإلا فكل قلب فهو بالفطرة صالح لمعرفة الحقائق لأنه أمر رباني شريف فارق سائر جواهر العالم بهذه الخاصية والشرف .
وإليه الإشارة بقوله D إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إشارة إلى أن له خاصية تميز بها عن السموات والأرض والجبال بها صار مطيقا لحمل أمانة الله تعالى .
وتلك الأمانة هي المعرفة والتوحيد وقلب كل آدمي مستعد لحمل الأمانة ومطيق لها في الأصل ولكن يثبطه عن النهوض بأعبائها والوصول إلى تحقيقها الأسباب التي ذكرناها .
ولذلك قال A كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه // حديث كل مولود يولد على الفطرة الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة .
وقول رسول الله