الخصمان بين يدي على من مال الحق من قريب أو بعيد فلا تمهلني طرفة عين .
يا أمير المؤمنين إن أشد الشدة القيام لله بحقه وإن أكرم الكرم عند الله التقوى وأنه من طلب العز بطاعة الله رفعه الله وأعزه ومن طلبه بمعصية الله أذله الله ووضعه .
فهذه نصيحتي إليك والسلام عليك .
ثم نهضت فقال لي إلى أين فقلت إلى الولد والوطن بإذن أمير المؤمنين إن شاء الله فقال قد أذنت لك وشكرت لك نصيحتك وقبلتها والله الموفق للخير والمعين عليه وبه أستعين وعليه أتوكل وهو حسبي ونعم الوكيل فلا تخلني من مطالعتك إياي بمثل هذا فإنك المقبول القول غير المتهم في النصيحة قلت أفعل إن شاء الله .
قال محمد بن مصعب فأمر له بمال يستعين به على خروجه فلم يقبله وقال أنا في غنى عنه وما كنت لأبيع نصيحتي بعرض من الدنيا .
وعرف المنصور مذهبه فلم يجد عليه في ذلك .
وعن ابن المهاجر قال قدم أمير المؤمنين المنصور مكة شرفها الله حاجا فكان يخرج من دار الندوة إلى الطواف في آخر الليل يطوف ويصلي ولا يعلم به فإذا طلع الفجر رجع إلى دار الندوة وجاء المؤذنون فسلموا عليه وأقيمت الصلاة فيصلى بالناس فخرج ذات ليلة حين أسحر فبينا هو يطوف إذ سمع رجلا عند الملتزم وهو يقول اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الظلم والطمع .
فأسرع المنصور في مشيه حتى ملأ مسامعه من قوله ثم خرج فجلس ناحية من المسجد وأرسل إليه فدعاه فأتاه الرسول وقال له أجب أمير المؤمنين فصلى ركعتين واستلم الركن وأقبل مع الرسول فسلم عليه فقال له المنصور ما هذا الذي سمعتك تقوله من ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطمع والظلم فوالله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني وأقلقني فقال يا أمير المؤمنين إن أمنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصولها وإلا اقتصرت على نفسي ففيها لي شغل شاغل فقال له أنت آمن على نفسك فقال الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين الحق وإصلاح ما ظهر من البغي والفساد في الأرض أنت .
فقال ويحك وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في يدي والحلو والحامض في قبضتي قال وهل دخل أحدا من الطمع ما دخلك يا أمير المؤمنين إن الله تعالى استرعاك أمور المسلمين وأموالهم فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم وجعلت بينك وبينهم حجابا من الجص والآجر وأبوابا من الحديد وحجبة معهم السلاح ثم سجنت نفسك فيها منهم وبعثت عمالك في جمع الأموال وجبايتها واتخذت وزراء وأعوانا ظلمة إن نسيت لم يذكروك وإن ذكرت لم يعينوك وقويتهم على ظلم الناس بالأموال والكراع والسلاح وأمرت بأن لا يدخل عليك من الناس إلا فلان وفلان نفر سميتهم ولم تأمر بإيصال المظلوم ولا الملهوف ولا الجائع ولا العاري ولا الضعيف ولا الفقير ولا أحد إلا وله في هذا المال حق فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك وأمرت أن لا يحجبوا عنك تجبى الأموال ولا تقسمها قالوا هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه وقد سخر لنا فائتمروا على أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا وأن لا يخرج لك عامل فيخالف لهم أمرا إلا أقصوه حتى تسقط منزلته ويصغر قدره فلما انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمهم الناس وهابوهم وكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال ليتقووا بهم على ظلم رعيتك ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك لينالوا ظلم من دونهم من الرعية فامتلأت بلاد الله بالطمع بغيا وفسادا وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك وأنت غافل فإن جاء متظلم حيل بينه وبين الدخول إليك وإن أراد رفع صوته أو قصته إليك عند ظهورك وجدك قد نهيت عن ذلك ووقفت للناس رجلا ينظر في مظالمهم فإن جاء ذلك الرجل فبلغ بطانتك سألوا صاحب المظالم أن لا يرفع مظلمته وإن كانت للمتظلم به حرمة وإجابة لم يمكنه مما يريد خوفا منهم فلا يزال المظلوم يختلف إليه ويلوذ به ويشكو