التعريف فهذا ينبغي أن يكون في محل الوجهين فقائل يقول التعريف والقيام بشرطه فيه تعب فلا سبيل إلى إلزامه ذلك إلا أن يتبرع فيلتزم طبقا للثواب .
وقائل يقول إن هذا القدر من التعب مستصغر بالإضافة إلى مراعاة حقوق المسلمين فينزل هذا منزلة تعب الشاهد في حضور مجلس الحكم فإنه لا يلزمه السفر إلى بلدة أخرى إلا أن يتبرع به فإذا كان مجلس القاضي في جواره لزمه الحضور وكان التعب بهذه الخطوات لا يعد تعبا في غرض إقامة الشهادة وأداء الأمانة وإن كان في الطرف الآخر من البلد وأحوج إلى الحضور في الهاجرة وشدة الحر فهذا قد يقع في محل الاجتهاد والنظر فإن الضرر الذي ينال الساعي في حفظ حق الغير له طرف في القلة لا يشك في أنه لا يبالي به وطرف في الكثرة لا يشك في أنه لا يلزم احتماله ووسط يتجاذبه الطرفان ويكون أبدا في محل الشبهة والنظر وهي من الشبهات المزمنة التي ليس في مقدور البشر إزالتها إذ لا علة تفرق بين أجزائها المتقاربة ولكن المتقي ينظر فيها لنفسه ويدع ما يريبه إلا ما لا يريبه فهذا نهاية الكشف عن هذا الأصل الركن الرابع نفس الاحتساب .
وله درجات وآداب أما الدرجات فأولها التعرف ثم التعريف ثم النهي ثم الوعظ والنصح ثم السب والتعنيف ثم التغيير باليد ثم التهديد بالضرب ثم إيقاع الضرب وتحقيقه ثم شهر السلاح ثم الاستظهار فيه بالأعوان وجمع الجنود .
أما الدرجة الأولى وهي التعرف ونعني طلب المعرفة بجريان المنكر وذلك منهي عنه وهو التجسس الذي ذكرناه فلا ينبغي أن يسترق السمع على دار غيره ليسمع صوت الأوتار ولا أن يستنشق ليدرك رائحة الخمر ولا أن يمس ما في ثوبه ليعرف شكل المزمار ولا أن يستخبر من جيرانه ليخبروه بما يجري في داره .
نعم لو أخبره عدلان ابتداء من غير استخبار بأن فلانا يشرب الخمر في داره أو بأن في داره خمرا أعده للشرب فله إذ ذاك أن يدخل داره ولا يلزم الاستئذان ويكون تخطى ملكه بالدخول للتوصل إلى دفع المنكر ككسر رأسه بالضرب للمنع مهما احتاج إليه .
وإن أخبره عدلان أو عدل واحد وبالجملة كل من تقبل روايته لا شهادته ففي جواز الهجوم على داره بقولهم فيه نظر واحتمال والأولى أن يمتنع لأن له حقا في أن لا يتخطى داره بغير إذنه ولا يسقط حق المسلم عما ثبت عليه حقه إلا بشاهدين فهذا أولى ما يجعل مردا فيه وقد قيل أنه كان نقش خاتم لقمان الستر لما عاينت أحسن من إذاعة ما ظننت .
الدرجة الثانية التعريف فإن المنكر قد يقدم عليه المقدم بجهله وإذا عرف أنه منكر تركه كالسوادي يصلي ولا يحسن الركوع والسجود فيعلم أن ذلك لجهله بأن هذه ليست بصلاة ولو رضى بأن لا يكون مصليا لترك أصل الصلاة فيجب تعريفه باللطف من غير عنف وذلك لأن ضمن التعريف نسبة إلى الجهل والحمق والتجهيل إيذاء وقلما يرضى الإنسان بأن ينسب إلى الجهل بالأمور لا سيما بالشرع .
ولذلك ترى الذي يغلب عليه الغضب كيف يغضب إذا نبه على الخطأ والجهل وكيف يجتهد في مجاحدة الحق بعد معرفته خيفة من أن تنكشف عورة جهله والطباع أحرص على ستر عورة الجهل منها على ستر العورة الحقيقية لأن الجهل قبح في صورة النفس وسواد في وجهه وصاحبه ملوم عليه وقبح السوأتين يرجع إلى صورة البدن والنفس أشرف من البدن وقبحها أشد من قبح البدن ثم هو غير ملوم عليه لأنه خلقة لم يدخل تحت اختياره حصوله ولا في اختياره إزالته وتحسينه .
والجهل قبح يمكن إزالته وتبديله بحسن العلم فلذلك يعظم تألم الإنسان بظهور جهله ويعظم ابتهاجه في نفسه بعلمه