وقد ذكر منهاجه في .
كتاب العزلة فليفهم هذا منه فإن السفر نوع مخالطة مع زيادة تعب ومشقة .
تفرق الهم وتشتت القلب في حق الأكثرين .
والأفضل في هذا ما هو الأعون على الدين ونهاية ثمرة الدين في الدنيا تحصيل معرفة الله تعالى وتحصيل الأنس بذكر الله تعالى والأنس يحصل بدوام الذكر والمعرفة تحصل بدوام الفكر .
ومن لم يتعلم طريق الفكر والذكر لم يتمكن منهما .
والسفر هو المعين على التعلم في الابتداء .
والإقامة هي المعينة على العمل بالعلم في الانتهاء وأما السياحة في الأرض على الدوام فمن المشوشات للقلب إلا في حق الأقوياء فإن المسافر وماله لعلى قلق إلا ما وقى الله فلا يزال المسافر مشغول القلب تارة بالخوف على نفسه وماله وتارة بمفارقة ما ألفه واعتاده في إقامته .
وإن لم يكن معه مال يخاف عليه فلا يخلو عن الطمع والاستشراف إلى الخلق فتارة يضعف قلبه بسبب الفقر وتارة يقوى باستحكام أسباب الطمع .
ثم الشغل بالحط والترحال مشوش لجميع الأحوال فلا ينبغي أن يسافر المريد إلا في طلب علم أو مشاهدة شيخ يقتدى به في سيرته وتستفاد الرغبة في الخير من مشاهدته فإن اشتغل بنفسه واستبصر وانفتح له طريق الفكر أو العمل فالسكون أولى به إلا أن أكثر متصوفة هذه الأعصار لما خلت بواطنهم عن لطائف الأفكار ودقائق الأعمال ولم يحصل لهم أنس بالله تعالى وبذكره في الخلوة وكانوا بطالين غير محترفين ولا مشغولين قد ألفوا البطالة واستثقلوا العمل واستوعروا طريق الكسب واستلانوا جانب السؤال والكدية واستطابوا الرباطات المبنية لهم في البلاد واستسخروا الخدم المنتصبين للقيام بخدمة القوم واستخفوا عقولهم وأديانهم من حيث لم يكن قصدهم من الخدمة إلا الرياء والسمعة وانتشار الصيت واقتناص الأموال بطريق السؤال تعللا بكثرة الأتباع فلم يكن لهم في الخانقاهات حكم ناقذ ولا تأديب للمريد بن نافع ولا حجر عليهم قاهر فبسوا المرقعات واتخذوا في الخانقاهات متنزهات وربما تلقفوا ألفاظا مزخرفة من أهل الطامات فينظرون إلى أنفسهم وقد تشبهوا بالقوم في خرقتهم وفي سياحتهم وفي لفظهم وعبارتهم وفي آداب ظاهرة من سيرتهم فيظنون بأنفسهم خيرا ويحسبون أنهم يحسنون صنعا ويعتقدون أن كل سوداء تمرة ويتوهمون أن المشاركة في الظاهر توجب المساهمة في الحقائق وهيهات فما أغزر حماقة من لا يميز بين الشحم والورم فهؤلاء بغضاء الله فإن الله تعالى يبغض الشاب الفارغ .
ولم يحملهم على السياحة إلا الشباب والفراغ إلا من سافر لحج أو عمرة في غير رياء ولا سمعة أو سافر لمشاهدة شيخ يقتدي به في علمه وسيرته وقد خلت البلاد عنه الآن .
والأمور الدينية كلها قد فسدت وضعفت إلا التصوف فإنه قد انمحق بالكلية وبطل لأن العلوم لم تندرس بعد والعالم وإن كان عالم سوء فإنما فساده في سيرته لا في علمه فيبقى عالما غير عامل بعلمه والعمل غير العلم .
وأما التصوف فهو عبارة عن تجرد القلب لله تعالى واستحقار ما سوى الله .
وحاصله يرجع إلى عمل القلب والجوارح .
ومهما فسد العمل فات الأصل .
وفي أسفار هؤلاء نظر للفقهاء من حيث إنه إتعاب للنفس بلا فائدة وقد يقال إن ذلك ممنوع .
ولكن الصواب عندنا أن نحكم بالإباحة فإن حظوظهم التفرج عن كرب البطالة بمشاهدة البلاد المختلفة وهذه الحظوظ وإن كانت خسيسة فنفوس المتحركين لهذه الحظوظ أيضا خسيسة ولا بأس بإتعاب حيوان خسيس لحظ خسيس يليق به ويعود إليه فهو المتأذى والمتلذذ .
والفتوى تقتضي تشتيت العوام في المباحات التي لا نفع فيها ولا ضرر فالسابحون في غير مهم في الدين والدنيا بل لمحض التفرج في البلاد كالبهائم المترددة في الصحاري فلا بأس بسياحتهم ما كفوا عن الناس شرهم ولم يلبسوا على الخلق حالهم وإنما عصيانهم في التلبيس والسؤال على اسم التصوف والأكل من الأوقاف التي وقفت على الصوفية لأن الصوفي عبارة عن رجل صالح عدل في دينه مع صفات أخر