أن يقتصروا مع شروط الشرع على قدر الحاجة .
أما الأول فلا يخفى بطلانه .
وأما الثاني فباطل قطعا لأنه إذا اقتصر الناس على سد الرمق وزجوا أوقاتهم على الضعف فشا فيهم الموتان وبطلت الأعمال والصناعات وخربت الدنيا بالكلية وفي خراب الدنيا خراب الدين لأنها مزرعة الآخرة وأحكام الخلافة والقضاء والسياسات بل أكثر أحكام الفقه مقصودها حفظ مصالح الدنيا ليتم بها مصالح الدين .
وأما الثالث وهو الاقتصار على قدر الحاجة من غير زيادة عليه مع التسوية بين مال ومال بالغضب والسرقة والتراضي وكيفما اتفق فهو رفع لسد الشرع بين المفسدين وبين أنواع الفساد فتمتد الأيدي بالغصب والسرقة وأنواع الظلم ولا يمكن زجرهم منه إذ يقولون ليس يتميز صاحب اليد باستحقاق عنا فإنه حرام عليه وعلينا وذو اليد له قدر الحاجة فقط فإن كان هو محتاجا فإنا أيضا محتاجون وإن كان الذي أخذته في حقي زائدا على الحاجة فقد سرقته ممن هو زائد على حاجته يومه وإذا لم يراع حاجة اليوم والسنة فما الذي نراعي وكيف يضبط وهذا يؤدي إلى بطلان سياسة الشرع وإغراء أهل الفساد بالفساد فلا يبقى إلا الاحتمال الرابع وهو أن يقال كل ذي يد على ما في يده وهو أولى به لا يجوز أن يؤخذ منه سرقة وغصبا بل يؤخذ برضاه والتراضي هو طريق الشرع وإذ لم يجز إلا بالتراضي فللتراضي أيضا منهاج في الشرع تتعلق به المصالح فإن لم يعتبر فلم يتعين أصل التراضي وتعطل تفصيله وأما الاحتمال الخامس وهو الاقتصار على قدر الحاجة مع الاكتساب بطريق الشرع من أصحاب الأيدي فهو الذي نراه لائقا بالورع لمن يريد سلوك طريق الآخر ولكن لا وجه لإيجابه على الكافة ولا لإدخاله في فتوى العامة لأن أيدي الظلمة تمتد إلى الزيادة على قدر الحاجة في أيدي الناس وكذا أيدي السراق وكل من غلب سلب وكل من وجد فرصة سرق ويقول لا حق له إلا في قدر الحاجة وأنا محتاج ولا يبقى إلا أن يجب على السلطان أن يخرج كل زيادة على قدر الحاجة من أيدي الملاك ويستوعب بها أهل الحاجة ويدر على الكل الأموال يوما فيوما أو سنة فسنة وفيه تكليف شطط وتضييع أموال أما تكليف الشطط فهو أن السلطان لا يقدر على القيام بهذا مع كثرة الخلق بل لا يتصور ذلك أصلا وأما التضييع فهو أن ما فضل عن الحاجة من الفواكه واللحوم والحبوب ينبغي أن يلقى في البحر أو يترك حتى يتعفن فإن الذي خلقه الله من الفواكه والحبوب زائد عن قدر توسع الخلق وترفههم فكيف على قدر حاجتهم ثم يؤدي ذلك إلى سقوط الحج والزكاة والكفارات المالية وكل عبادة نيطت بالغنى عن الناس إذا أصبح الناس لا يملكون إلا قدر حاجتهم وهو في غاية القبح بل أقول لو ورد نبي في مثل هذا الزمان لوجب عليه أن يستأنف الأمر ويمهد تفصيل أسباب الأملاك بالتراضي وسائر الطرق ويفعل ما يفعله لو وجد جميع الأموال حلالا من غير فرق .
وأعني بقولي يجب عليه إذا كان النبي ممن بعث لمصلحة الخلق في دينهم ودنياهم إذ لا يتم الصلاح برد الكافة إلى قدر الضرورة والحاجة إليه فإن لم يبعث للصلاح لم يجب هذا .
ونحن نجوز أن يقدر الله سببا يهلك به الخلق عن آخرهم فيفوت دنياهم ويضلون في دينهم فإنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء ويميت من يشاء ويحيي من يشاء ولكنا نقدر الأمر جاريا على ما ألف من سنة الله تعالى في بعثة الأنبياء لصلاح الدين والدنيا .
وما لي أقدر هذا وقد كان ما أقدره فلقد بعث الله نبينا A على فترة من الرسل وكان شرع عيسى عليه السلام قد مضى عليه قريب من ستمائة سنة والناس منقسمون إلى مكذبين له من اليهود وعبدة الأوثان وإلى مصدقين له قد شاع الفسق فيهم كما شاع في زماننا الآن والكفار مخاطبون بفروع الشريعة .
والأموال كانت في أيدي المكذبين له والمصدقين أما المكذبون فكانوا يتعاملون بغير شرع عيسى عليه السلام وأما المصدقون فكان يتساهلون مع أصل التصديق