سنة نبيه ولم يطلب به رياء ولا سمعة فأولئك أهل رضوان الله تعالى وفضلهم عند الله لعملهم بعلمهم ولإرادتهم وجه الله سبحانه بفتواهم ونظرهم فإن كل علم عمل فإنه فعل مكتسب وليس كل عمل علما والطبيب يقدر على التقرب إلى الله تعالى بعلمه فيكون مثابا على علمه من حيث إنه عامل لله سبحانه وتعالى به والسلطان يتوسط بين الخلق لله فيكون مرضيا عند الله سبحانه ومثابا لا من حيث إنه متكفل بعلم الدين بل من حيث هو متقلد بعمل يقصد به التقرب إلى الله D بعلمه .
وأقسام ما يتقرب به إلى الله تعالى ثلاثة علم مجرد وهو علم المكاشفة وعمل مجرد وهو كعدل السلطان مثلا وضبطه للناس ومركب من عمل وعلم وهو علم طريق الآخرة فإن صاحبه من العلماء والعمال جميعا فانظر إلى نفسك أتكون يوم القيامة في حزب علماء الله وأعمال الله تعالى أوفى حزبيهما فتضرب بسهمك مع كل فريق منهما فهذا أهم عليك من التقليد لمجرد الاشتهار كما قيل .
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل .
على أنا سننقل من سيرة فقهاء السلف ما تعلم به أن الذين انتحلوا مذاهبهم ظلموهم وأنهم من أشد خصمائهم يوم القيامة فإنهم ما قصدوا بالعلم إلا وجه الله تعالى وقد شوهد من أحوالهم ما هو من علامات علماء الآخرة كما سيأتي بيانه في باب علامات علماء الآخرة فإنهم ما كانوا متجردين لعلم الفقه بل كانوا مشتغلين بعلم القلوب ومراقبين لها ولكن صرفهم عن التدريس والتصنيف فيه ما صرف الصحابة عن التصنيف والتدريس في الفقه مع أنهم كانوا فقهاء مستقلين بعلم الفتوى والصوارف والدواعي متيقنة ولا حاجة إلى ذكرها .
ونحن الآن نذكر من أحوال فقهاء الإسلام ما تعلم به أن ما ذكرناه ليس طعنا فيهم بل هو طعن فيمن أظهر الاقتداء بهم منتحلا مذاهبهم وهو مخالف لهم في أعمالهم وسيرهم فالفقهاء الذين هم زعماء الفقه وقادة الخلق أعني الذين كثر أتباعهم في المذاهب خمسة الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة وسفيان الثوري رحمهم الله تعالى .
وكل واحد منهم كان عابدا وزاهدا وعالما بعلوم الآخرة وفقيها في مصالح الخلق في الدنيا ومريدا بفقهه وجه الله تعالى فهذه خمس خصال اتبعهم فقهاء العصر من جملتها على خصلة واحدة وهي التشمير والمبالغة في تفاريع الفقه لأن الخصال الأربع لا تصلح إلا للآخرة وهذه الخصلة الواحدة تصلح للدنيا والآخرة إن أريد بها الآخرة قل صلاحها للدنيا شمروا لها وادعوا بها مشابهة أولئك الأئمة وهيهات أن تقاس الملائكة بالحدادين فلنورد الآن من أحوالهم ما يدل على هذه الخصال الأربع فإن معرفتهم بالفقه ظاهرة .
أما الإمام الشافعي C فيدل على أنه كان عابدا ما روي أنه كان يقسم الليل ثلاثة أجزاء ثلثا للعلم وثلثا للعبادة وثلثا للنوم قال الربيع كان الشافعي C يختم القرآن في رمضان ستين مرة كل ذلك في الصلاة وكان البويطي أحد أصحابه يختم القرآن في رمضان في كل يوم مرة وقال الحسن الكرابيسي بت مع الشافعي غير ليلة فكان يصلي نحوا من ثلث الليل فما رأيته يزيد على خمسين آية فإذا أكثر فمائة آية وكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله لنفسه ولجميع المسلمين والمؤمنين ولا يمر بآية عذاب إلا تعوذ فيها وسأل النجاة لنفسه وللمؤمنين وكأنما جمع له الرجاء والخوف معا فانظر كيف يدل اقتصاره على خمسين آية على تبحره في أسرار القرآن وتدبره فيها وقال الشافعي C ما شبعت منذ ست عشرة سنة لأن الشبع يثقل البدن ويقسي القلب ويزيل الفطنة ويجلب النوم ويضعف صاحبه عن العبادة فانظر إلى حكمته في ذكر آفات الشبع ثم في جده في العبادة إذ طرح الشبع لأجلها ورأس التعبد تقليل الطعام وقال الشافعي C ما حلفت بالله تعالى لا صادقا ولا كاذبا قط فانظر