اقتضى الكرم إفاضة نعمة تكفي الحاجات فأكثر الأموال وصبها في أيدي عباده لتكون آلة لهم في دفع حاجاتهم ووسيلة لتفرغهم لطاعاتهم فمنهم من أكثر ماله فتنة وبلية فأقحمه في الخطر ومنهم من أحبه فحماه عن الدنيا كما يحمى المشفق مريضه فزوى عنه فضولها وساق إليه قدر حاجته على يد الأغنياء ليكون سهل الكسب والتعب في الجمع والحفظ عليهم وفائدته تنصب إلى الفقراء فيتجردون لعبادة الله والاستعداد لما بعد الموت فلا تصرفهم عنها فضول الدنيا ولا تشغلهم عن التأهب الفاقة وهذا منتهى النعمة فحق الفقير أن يعرف قدر نعمة الفقر ويتحقق أن فضل الله عليه فيما زواه عنه أكثر من فضله فيما أعطاه كما سيأتي في كتاب الفقر تحقيقه وبيانه إن شاء الله تعالى فليأخذ ما يأخذه من الله سبحانه رزقا له وعونا له على الطاعة ولتكن نيته فيه أن يتقوى به على طاعة الله فإن لم يقدر عليه فليصرفه إلى ما أباحه الله D فإن استعان به على معصية الله كان كافرا لأنعم الله D مستحقا للبعد والمقت من الله سبحانه .
الثانية أن يشكر المعطى ويدعو له ويثني عليه ويكون شكره ودعاؤه بحيث لا يخرجه عن كونه واسطة ولكنه طريق وصول نعمة الله سبحانه إليه وللطريق حق من حيث جعله الله طريقا وواسطة وذلك لا ينافي رؤية النعمة من الله سبحانه فقد قال A من لم يشكر الناس لم يشكر الله // حديث من لم يشكر الناس لم يشكر الله أخرجه الترمذي وحسنه من حديث أبي سعيد وله ولأبي داود وابن حبان نحوه من حديث أبي هريرة وقال حسن صحيح // وقد أثنى الله D على عباده في مواضع على أعمالهم وهو خالقها وفاطر القدرة عليها نحو قوله تعالى نعم العبد إنه أواب إلى غير ذلك .
وليقل القابض في دعائه طهر الله قلبك في قلوب الأبرار وزكى عملك في عمل الأخيار وصلى على روحك في أرواح الشهداء وقد قال A من أسدى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تستطيعوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه // حديث من أسدى إليكم معروفا فكافئوه الحديث أخرجه أبو داود والنسائي من حديث ابن عمر بإسناد صحيح بلفظ من صنع // ومن تمام الشكر أن يستر عيوب العطاء إن كان فيه عيب ولا يحقره ولا يذمه ولا يعيره بالمنع إذا منع ويفخم عند نفسه وعند الناس صنيعه .
فوظيفة المعطى الاستصغار ووظيفة القابض تقلد المنة والاستعظام وعلى كل عبد القيام بحقه وذلك لا تناقض فيه إذ موجبات التصغير والتعظيم تتعارض .
والنافع للمعطي ملاحظة أسباب التصغير ويضره خلافه والآخذ بالعكس منه وكل ذلك لا يناقض رؤية النعمة من الله D فإن من لا يرى الواسطة واسطة فقد جهل وإنما المنكر أن يرى الواسطة أصلا .
الثالثة أن ينظر فيما يأخذه فإن لم يكن من حل تورع عنه ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ولن يعدم المتورع عن الحرام فتوحا من الحلال فلا يأخذ من أموال الأتراك والجنود وعمال السلاطين ومن أكثر كسبه من الحرام إلا إذا ضاق الأمر عليه وكان ما يسلم إليه لا يعرف له مالكا معينا فله أن يأخذ بقدر الحاجة فإن فتوى الشرع في مثل هذا أن يتصدق به على ما سيأتي بيانه في كتاب الحلال والحرام وذلك إذا عجز عن الحلال فإذا أخذ لم يكن أخذه أخذ زكاة إذ لا يقع زكاة عن مؤديه وهو حرام .
الرابعة أن يتوقى مواقع الريبة والاشتباه في مقدار ما يأخذه فلا يأخذ إلا المقدار المباح ولا يأخذ إلا إذا تحقق أنه موصوف بصفة الاستحققا فإن كان يأخذه بالكتابة والغرامة فلا يزيد على مقدار الدين وأن كان يأخذ بالعمل فلا يزيد على أجرة المثل وإن أعطى زيادة أبى وامتنع إذ ليس المال للمعطي حتى يتبرع به وإن كان مسافرا لم يزد على الزاد وكراء الدابة إلى مقصده وإن كان غازيا لم يأخذ إلا ما يحتاج إليه للغزو خاصة من خيل وسلاح ونفقة .
وتقدير ذلك بالاجتهاد وليس له حد وكذا زاد السفر والورع ترك ما يريبه إلى ما لا يريبه .
وإن أخذ بالمسكنة فلينظر أولاالى أثاث بيته وثيابه