ولعمرى الإشارة به يوم القيامة بل فى أزل ولكن أظهر يوم القيامة ما سبق به القضاء فالعجب منك حيث تضحك وتلهو وتشتغل بمحقرات الدنيا ولست تدرى أن القضاء بماذا سبق فى حقك .
فإن قلت فليت شعرى ماذا موردى وإلى ماذا مآلى ومرجعى وما الذى سبق به القضاء فى حقى فلك علامة تستأنس بها وتصدق رجاءك بسببها وهى أن تنظر إلى أحوالك وأعمالك فإن كلا ميسر لما خلق له فإن كان قد يسر لك سبيل الخير فأبشر فإنك مبعد عن النار وإن كنت لا تقصد خيرا إلا وتحيط بك العوائق فتدفعه ولا تقصد شرا إلا ويتيسر لك أسبابه فاعلم أنك مقضى عليك فإن دلالة هذا على العاقبة كدلالة المطر على النبات ودلالة الدخان على النار .
فقد قال الله تعالى إن الأبرار لفى نعيم وإن الفجار لفى جحيم فاعرض نفسك على الآيتين وقد عرفت مستقرك من الدارين والله أعلم .
القول فى صفة الجنة وأصناف نعيمها .
اعلم أن تلك الدار التى عرفت همومها وغمومها تقابلها دار أخرى فتأمل نعيمها وسرورها فإن من بعد من أحدهما استقر لا محالة فى الأخرى فاستثر الخوف من قلبك بطول الفكر فى أهوال الجحيم واستثر الرجاء بطول الفكر فى النعيم المقيم الموعود لأهل الجنان وسق نفسك بسوط الخوف وقدها بزمام الرجاء إلى الصراط المستقيم فبذلك تنال الملك العظيم وتسلم من العذاب الأليم فتفكر فى أهل الجنة وفى وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم جالسين على منابر الياقوت الأحمر فى خيام من اللؤلؤ الرطب الأبيض فيها بسط من العبقرى الأخضر متكئين على أرائك منصوبة على أطراف أنهار مطردة بالخمر والعسل محفوفة بالغلمان والولدان مزينة بالحور العين من الخيرات الحسان كأنهن الياقوت والمرجان لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان يمشين فى درجات الجنان إذا اختالت إحداهن فى مشيها حمل أعطافها سبعون ألفا من الولدان عليها من طرائف الحرير الأبيض ما تتحير فيه الأبصار مكللات بالتيجان المرصعة باللؤلؤ والمرجان شكلات غنجات عطرات آمنات من الهرم والبؤس مقصورات فى الخيام فى قصور من الياقوت بنيت وسط روضات الجنان قاصرات الطرف عين ثم يطاف عليهم وعليهن بأكواب وأباريق وكأس من معين بيضاء لذة للشاربين ويطوف عليهم خدام وولدان كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون فى مقام أمين فى جنات وعيون فى جنات ونهر فى مقعد صدق عند مليك مقتدر ينظرون فيها إلى وجه الملك الكريم وقد أشرقت فى وجوههم نضرة النعيم لا يرهقهم فتر ولا ذلة بل عباد مكرمون وبأنواع التحف من ربهم يتعاهدون فهم فيما اشتهيت أنفسهم خالدون لا يخافون فيها ولا يحزنون وهم من ريب المنون آمنون فهم فيها يتنعمون ويأكلون من أطعمتها ويشربون من أنهارها لبنا وخمرا وعسلا فى أنهار أراضيها من فضة وحصباؤها مرجان وعلى أرض ترابها مسك أذفر ونباتها زعفران ويمطرون من سحاب فيها من ماء النسرين على كثبان الكافور ويؤتون بأكواب وأى أكواب بأكواب من فضة مرصعة بالدر والياقوت والمرجان كوب فيه من الرحيق المختوم ممزوج به السلسبيل العذب كوب يشرق نوره من صفاء جوهره يبدو الشراب من ورائه برقته وحمرته لم يصنعه آدمى فيقصر فى تسوية صنعته وتحسين صناعته فى كف خادم يحكى ضياء وجهه الشمس فى إشراقها ولكن من أين للشمس حلاوة مثل حلاوة صورته وحسن أصداغه وملاحة أحداقه .
فيا عجبا لمن يؤمن بدار هذه صفتها ويوقن بأنه لا يموت أهلها ولا تحل الفجائع بمن نزل بفنائها ولا تنظر الأحداث بعين التغيير إلى أهلها كيف يأنس بدار قد أذن الله فى خرابها ويتهنأ بعيش دونها والله لو لم يكن فيها إلا سلامة الأبدان مع الأمن