المقام الثاني أن تتذكر أمر النائم وأنه قد يرى في نومه حية تلدغه وهو يتألم بذلك حتى تراه يصبح في نومه ويعرق جبينه وقد ينزعج من مكانه كل ذلك يدركه من نفسه ويتأذى به كما يتأذى اليقظان وهو يشاهده وأنت ترى ظاهره ساكنا ولا ترى حواليه حية والحية موجودة في حقه والعذاب حاصل ولكنه في حقك غير مشاهد وإذا كان العذاب في ألم اللدغ فلا فرق بين حية تتخيل أو تشاهد .
المقام الثالث أنك تعلم أن الحية بنفسها لا تؤلم بل الذي يلقاك منها وهو السم ثم السم ليس هو الألم بل عذابك في الأثر الذي يحصل فيك من السم فلو حصل مثل ذلك الأثر من غير سم لكان العذاب قد توفر وكان لا يمكن تعريف ذلك النوع من العذاب إلا بأن يضاف إلى السبب الذي يفضى إليه في العادة فإنه لو خلق في الإنسان لذة الوقاع مثلا من غير مباشرة صورة الوقاع لم يمكن تعريفها إلا بالإضافة إليه لتكون الإضافة للتعريف بالسبب وتكون ثمرة السبب حاصلة وإن لم تحصل صورة السبب السبب يراد لثمرته لا لذاته .
وهذه الصفات المهلكات تنقلب مؤذيات ومؤلمات في النفس عند الموت فتكون آلامها كآلام لدغ الحيات من غير وجود حيات وانقلاب الصفة مؤذية يضاهي انقلاب العشق مؤذيا عند موت المعشوق فإن كان لذيذا فطرأت حالة صار اللذيذ بنفسه مؤلما حتى يرد بالقلب وأنواع العذاب ما يتمنى معه أن لم يكن قد تنعم من العشق والوصال بل هذا بعينه أحد أنواع عذاب الميت فإنه قد سلط العشق في الدنيا على نفسه فصار يعشق ماله وعقاره وجاهه وولده وأقاربه ومعارفه ولو أخذ جميع ذلك في حياته من لا يرجو استرجاعه منه فماذا ترى يكون حاله أليس يعظم شقاؤه ويشتد عذابه ويتمنى ويقول ليته لم يكن لي مال قط ولا جاه قط فكنت لا أتاذى بفراقه فالموت عبارة عن مفارقة المحبوبات الدنيوية كلها دفعة واحدة ما حال من كان له واحد ... غيب عنه ذلك الواحد فما حال من لا يفرح إلا بالدنيا فتؤخذ منه الدنيا وتسلم إلى أعدائه ثم ينضاف إلى هذا العذاب تحسره على ما فاته من نعيم الآخرة والحجاب عن الله D فإن حب غير الله يحجبه عن لقاء الله والتنعم به فيتوالى عليه ألم فراق جميع محبوباته وحسرته ما فاته من نعيم الآخرة أبد الآباد وذل الرد والحجاب عن الله تعالى وذلك هو العذاب الذي يعذب به إذ لا يتبع نار الفراق إلا نار جهنم كما قال تعالى كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم وأما من لم يأنس بالدنيا ولم يحب إلا الله وكان مشتاقا إلى لقاء الله فقد تخلص من سجن الدنيا ومقاساة الشهوات فيها وقدم على محبوبه وانقطعت عنه العوائق والصوارف وتوفر عليه النعيم مع الأمن من الزوال أبد الآباد ولمثل ذلك فليعمل العاملون .
والمقصود أن الرجل قد يحب فرسه بحيث لو خير بين أن يؤخذ منه وبين أن تلدغه عقرب آثر الصبر على لدغ العقرب فإذن ألم فراق الفرس عنده أعظم من العقرب وحبه الفرس هو الذي يلدغه إذا أخذ منه فرسه فليستعد لهذه اللدغات فإن الموت يأخذ منه فرسه ومركبه وداره وعقاره وأهله وولده وأحبائه ومعارفه ويأخذ منه جاهه وقبوله بل يأخذ منه سمعه وبصره وأعضاءه وييأس من رجوع جميع ذلك إليه فإذا لم يحب سواه وقد أخذ جميع ذلك منه فذلك أعظم عليه من العقارب والحيات وكما لو أخذ ذلك منه وهو حي فيعظم عقابه فكذلك إذا مات لأنا قد بينا أن المعنى الذي هو المدرك للآلام واللذات لم يمت بل عذابه بعد الموت أشد لأنه في الحياة يتسلى بأسباب يشغل بها حواسه من مجالسة ومحادثة ويتسلى برجاء العود إليه ويتسلى برجاء العوض منه ولا سلوة