قد خلع الأسباب وفارق الأحباب وواجه الحساب وايم الله إني لأقول مقالتي هذه ولا أعلم عند أحدكم من الذنوب أكثر مما أعلم من نفسي ولكنها سنن من الله عادلة آمر فيها بطاعته وأنهى فيها عن معصيته واستغفر الله ووضع كمه على وجهه وجعل يبكي حتى بلت دموعه لحيته وما عاد إلى مجلسه حتى مات .
وقال القعقاع بن حكيم قد استعددت للموت منذ ثلاثين سنة فلو أتاني ما أحببت تأخير شيء عن شيء .
وقال الثوري رأيت شيخا في مسجد الكوفة يقول أنا في هذا المسجد منذ ثلاثين سنة لو أنتظر الموت أن ينزل بي ولو أتاني ما أمرته بشيء ولا نهيته عن شيء ولا لى على أحد شيء ولا لأحد عندي شيء .
وقال عبد الله بن ثعلبة تضحك ولعل أكفانك قد خرجت من عند القصار .
وقال أبو محمد بن علي الزاهد خرجنا في جنازة بالكوفة وخرج فيها داود الطائي فانتبذ فقعد ناحية وهي تدفن فجئت فقعدت قريبا منه فتكلم فقال من خاف الوعيد قصر عليه البعيد ومن طال أمله ضعف عمله وكل ما هو آت قريب واعلم يا أخي أن كل شيء يشغلك عن ربك فهو عليك مشؤم واعلم أن أهل الدنيا جميعا من أهل القبور إنما يندمون على ما يخلفون ويفرحون بما يقدمون فما ندم عليه أهل القبور أهل الدنيا عليه يقتتلون وفيه يتنافسون وعليه عند القضاة يختصمون وروى أن معروفا الكرخى C تعالى أقام الصلاة قال محمد بن أبي توبة فقال لي تقدم فقلت إني إن صليت بكم هذه الصلاة لم أصل بكم غيرها فقال معروف وأنت تحدث نفسك أن تصلي صلاة أخرى نعوذ بالله من طول الأمل فإنه يمنع من خير العمل .
وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته إن الدنيا ليست بدار قراركم دار كتب الله عليها الفناء وكتب على أهلها الظعن عنها فكم من عامر موثق عما قليل يخرب وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة وتزودوا فإن خير الزاد التقوى إنما الدنيا كفىء ظلال قلص فذهب بينا ابن آدم في الدنيا ينافس وهو قدير العين إذ دعاه الله بقدره ورماه بيوم حتفه فسلبه آثاره ودنياه وصير لقوم آخرين مصانعه ومغناه إن الدنيا لا تسر بقدر ما تضر إنها تسر قليلا وتحزن طويلا .
وعن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه كان يقول في خطبته أين الوضاء الحسنة وجوههم المعجبون بشبابهم أين الملوك الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحيطان أين الذين كانوا يعطون الغلبة في مواطن الحرب قد تضعضع بهم الدهر فأصبحوا في ظلمات القبور الوحا الوحا ثم النجا النجا .
بيان السبب في طول الأمل وعلاجه .
اعلم أن طول الأمل له سببان أحدهما الجهل والآخر حب الدنيا .
أما حب الدنيا فهو أنه إذا أنس بها وبشهواتها ولذاتها وعلائقها ثقل على قلبه مفارقتها فامتنع قلبه من الفكر في الموت الذي هو سبب مفارقتها وكل من كره شيئا دفعه عن نفسه والإنسان مشغوف بالأماني الباطلة فيمنى نفسه أبدا بما يوافق مراده وإنما يوافق مراده البقاء في الدنيا فلا يزال يتوهمه ويقدره في نفسه ويقدر توابع البقاء وما يحتاج إليه من مال وأهل ودار وأصدقاء ودواب وسائر أسباب الدنيا فيصير قلبه عاكفا على هذا الفكر موقوفا عليه فيلهو عن ذكر الموت فلا يقدر قربه فإن خطر له في بعض الأحوال أمر الموت والحاجة إلى الإستعداد له سوف ووعد نفسه وقال الأيام بين يديك إلى أن تكبر ثم تتوب وإذا كبر فيقول إلى أن تصير شيخا فإذا صار شيخا قال إلى أن تفرغ من بناء هذه الدار وعمارة هذه الضيعة أو ترجع من هذه السفرة أو تفرغ من تدبير هذا الولد وجهازه وتدبير مسكن له أو تفرغ من قهر هذا العدو الذي يشمت بك .
فلا يزال يسوف ويؤخر ولا يخوض في شغل إلا ويتعلق بإتمام ذلك الشغل عشرة أشغال أخر وهكذا على التدريج