في الآخرة وكل من لم يجد لذة المعرفة في الدنيا فلا يجد لذة النظر في الآخرة إذ ليس يستأنف لأحد في الآخرة ما لم يصحبه من الدنيا ولا يحصد أحد إلا ما زرع ولا يحشر المرء إلا على ما مات عليه ولا يموت إلا على ما عاش عليه فما صحبه من المعرفة هو الذى يتنعم به بعينه فقط إلا أنه ينقلب مشاهدة بكشف الغطاء فتتضاعف اللذة به كما تتضاعف لذة العاشق إذا استبدل بخيال صورة المعشوق رؤية صورته فإن ذلك منتهى لذته وإنما طيبة الجنة أن لكل أحد فيها ما يشتهى فمن لا يشتهي إلا لقاء الله تعالى فلا لذة له في غيره بل ربما يتأذى به .
فإذن نعيم الجنة بقدر حب الله تعالى وحب الله تعالى بقدر معرفته فأصل السعادات هى المعرفة التى عبر الشرع عنها بالإيمان .
فإن قلت فلذة الرؤية إن كان لها نسبة إلى لذة المعرفة فهى قليلة وإن كان أضعافها لأن لذة المعرفة في الدنيا ضعيفة فتضاعفها إلى حد قريب لا ينتهى في القوة إلى أن يستحقر سائر لذات الجنة فيها فاعلم أن هذا الاستحقار للذة المعرفة صدر من الخلو عن المعرفة فمن خلا عن المعرفة كيف يدرك لذتها وإن انطوى على معرفة ضفيفة وقلبه مشحون بعلائق الدنيا فكيف يدرك لذتها فللعارفين في معرفتهم وفكرتهم ومناجاتهم لله تعالى لذات لو عرضت عليهم الجنة في الدنيا بدلا عنها لم يستبدلوا بها لذة الجنة ثم هذه اللذة مع كمالها لا نسبة لها أصلا إلى لذة اللقاء والمشاهدة كما لا نسبة للذة خيال المعشوق إلى رؤيته ولا لذة استنشاق روائح الأطعمة الشهية إلى ذوقها ولا للذة اللمس باليد إلى لذة الوقاع .
وإظهار عظم التفاوت بينهما لا يمكن إلا بضرب مثال فنقول لذة النظر إلى وجه المعشوق في الدنيا تتفاوت بأسباب أحدهما كمال جمال المعشوق ونقصانه فإن اللذة في النظر إلى الأجمل أكمل لا محالة .
والثانى كمال قوة الحب والشهوة والعشق فليس التذاذ من اشتد عشقه كالتذاذ ضعفت شهوته وحبه .
والثالث كمال الإدراك فليس التذاذ برؤية المعشوق في ظلمة أو من وراء ستر رقيق أو من بعده كالتذاذه بإدراكه على قرب من غير ستر وعند كمال الضوء ولا إدراك لذة المضاجعة مع ثوب حائل كإدراكها مع التجرد .
والرابع اندفاع العوائق المشوشة والآلام الشاغلة للقلب فليس التذاذ الصحيح الفارغ المتجرد للنظر إلى المعشوق كالتذاذ الخائف المذعور أو المريض المتألم أو المشغول قلبه بمهم من المهمات .
فقدر عاشقا ضعيف العشق ينظر إلى وجه معشوقه من وراء ستر رقيق على بعد بحيث يمنع انكشاف كنه صورته في حالة اجتمع عليه عقارب وزنابير تؤذيه وتلدغه وتشغل قلبه فهو في هذه الحالة لا يخلو عن لذة ما من مشاهدة معشوقه فلو طرأت على الفجأة حالة انهتك بها الستر وأشرق بها الضوء واندفع عنه المؤذيات وبقى سليما فارغا وهجمت عليه الشهوة القوية والعشق المفرط حتى بلغ أقصى الغايات فانظر كيف تتضاعف اللذة حتى لا يبقى للأولى إليها نسبة يعتد بها فكذلك فافهم نسبة لذة النظر إلى لذة المعرفة .
فالستر الرقيق مثال البدن والاشتغال به والعقارب والزنابير مثال الشهوات المتسلطة على الإنسان من الجوع والعطش والغضب والغم والحزن وضعف الشهوة والحب مثال لقصور النفس في الدنيا ونقصانها عن الشوق إلى الملأ الأعلى والتفاتها إلى أسفل السافلين وهو مثل قصور الصبى عن ملاحظة لذة الرياسة والتفاته إلى اللعب بالعصفور والعارف وإن قويت في الدنيا معرفته فلا يخلو عن هذه المشوشات ولا يتصور أن يخلو عنها ألبتة .
نعم قد تضعف هذه العوائق في بعض الأحوال ولا تدوم فلا جرم يلوح من جمال المعرفة ما يبهت العقل وتعظم لذته بحيث يكاد القلب يتفطر لعظمته ولكن يكون ذلك