مثل ذلك قال فجئت بالطعام فوضعته فأكل معه وما رأيته أكل مع غيره قال فأكلنا حاجتنا وبقى من الطعام شىء كثير فأخذه الرجل وجمعه في ثوبه وحمله معه وانصرف فعجبت من ذلك وكرهته له فقال لي بشر لعلك أنكرت فعله قلت نعم أخذ بقية الطعام من غير إذن فقال ذاك أخونا فتح الموصلى زارنا اليوم من الموصل فإنما أراد أن يعلمنا أن التوكل إذا صح لم يضر معه الادخار .
الفن الثالث في مباشرة الأسباب الدافعة للضرر المعرض للخوف أعلم أن الضرر قد يعرض للخوف في نفس أو مال وليس من شروط التوكل ترك الأسباب الدافعة رأسا أما في النفس فكالنوم في الأرض المسبعة أو في مجاري السيل من الوادى أو تحت الجدار المائل والسقف المنكسر فكل ذلك منهى عنه وصاحبه قد عرض نفسه للهلاك بغير فائدة نعم تنقسم هذه الأسباب إلى مقطوع بها ومظنونة وإلى موهومة فترك الموهوم منها من شرط التوكل وهى التى نسبتها إلى دفع الضرر نسبة الكى والرقية فإن الكى والرقية قد تقدم به على المحذور دفعا لما يتوقع وقد يستعمل بعد نزول المحذور للإزالة ورسول الله A لم يصف المتوكلين إلا بترك الكى والرقية والطيرة ولم يصفهم بأنهم إذا خرجوا إلى موضع بارد لم يلبسوا جبة والجبة تلبس دفعا للبرد المتوقع وكذلك كل مافي معناها من الأسباب نعم الاستظهار بأكل الثوم مثلا عند الخروج إلى السفر في الشتاء تهييجا لقوة الحرارة من الباطن ربما يكون من قبيل التعمق في الأسباب والتعويل عليها فيكاد يقرب من الكي بخلاف الجبة ولترك الأسباب الدافعة وإن كانت مقطوعة وجه إذا ناله الضرر من إنسان فإنه إذا أمكنه الصبر وأمكنه الدفع والتشفى فشرط التوكل الاحتمال والصبر قال الله تعالى فاتخذه وكيلا واصبر على ما يقولون وقال تعالى ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون وقال D ودع آذاهم وتوكل على الله وقال سبحانه تعالى فاصبر كما صبر أولى العزم من الرسل وقال تعالى نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون وهذا في أذى الناس وأما الصبر على أذى الحيات والسباع والعقارب فترك دفعها ليس من التوكل في شىء إذ لا فائدة فيه ولا يراد السعى ولا يترك السعى لعينه بل لإعانته على الدين وترتب الأسباب ههنا كترتبها في الكسب وجلب المنافع فلا نطول بالإعادة وكذلك في الأسباب الدافعة عن المال فلا ينقص التوكل بإغلاق باب البيت عند الخروج ولا بأن يعقل البعير لأن هذه أسباب عرفت سنة الله تعالى إما قطعا وإما ظنا ولذلك قال A للإعرابي لما أن أهمل البعير وقال توكلت على الله اعقلها وتوكل // حديث اعقلها وتوكل أخرجه الترمذى من حديث أنس قال يحيى القطان منكر ورواه ابن خزيمة في التوكل والطبراني من حديث عمرو بن أمية الضمرى بإسناد جيد قيدها // وقال تعالى خذوا حذركم وقال في كيفية صلاة الخوف وليأخذوا أسلحتهم وقال سبحانه وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل وقال تعالى لموسى عليه السلام فأسر بعبادى ليلا والتحصن بالليل اختفاء عن أعين الأعداء ونوع تسبب واختفاء رسول الله A في الغار اختفاء عن أعين الأعداء دفعا للضرر // حديث اختفى رسول الله A عن أعين الأعداء دفعا للضرر تقدم في قصة اختفائه في الغار عند إرادة الهجرة // وأخذ السلاح في الصلاة فليس دافعا قطعا كقتل الحية والعقرب فإنه دافع قطعا ولكن أخذ السلاح سبب مظنون وقد بينا أن المظنون كالمقطوع وإنما الموهوم هو الذي يقتضى التوكل تركه .
فإن قلت فقد حكى عن جماعة أن منهم من وضع الأسد يده على كتفه ولم يتحرك فأقول وقد حكى عن جماعة أنهم ركبوا الأسد وسخروه فلا ينبغى أن يغرك ذلك المقام فإنه وإن كان صحيحا في نفسه فلا يصلح للاقتداء