وهو حال عزيز فى نفسه ودوامه إن وجد أبعد منه وأعز .
وقال أبو سعيد الخراز التوكل اضطراب بلا سكون وسكون بلا اضطراب ولعله يشير إلى المقام الثانى فسكونه بلا اضطراب إشارة إلى سكون القلب إلى الوكيل وثقته به واضطراب بلا سكون إشارة إلى فزعه إليه وابتهاله وتضرعه بين يديه كاضطراب الطفل بيديه إلى أمه وسكون قلبه إلى تمام شفقتها .
وقال أبو على الدقاق التوكل ثلاث درجات التوكل ثم التسليم ثم التفويض فالمتوكل يسكن إلى وعده والمسلم يكتفى بعلمه وصاحب التفويض يرضى بحكمه وهذا إشارة إلى تفاوت درجات نظره بالإضافة إلى المنظور إليه فإن العلم هو الأصل والوعد يتبعه والحكم يتبع الوعد ولا يبعد أن يكون الغالب على قلب المتوكل ملاحظة شىء من ذلك وللشيوخ فى التوكل أقاويل سوى ما ذكرناه فلا نطول بها فإن الكشف أنفع من الرواية والنقل فهذا ما يتعلق بحال التوكل والله الموفق برحمته ولطفه .
بيان أعمال المتوكلين .
اعلم أن العلم يورث الحال والحال يثمر الأعمال وقد يظن أن معنى التوكل ترك الكسب بالبدن وترك التدبير بالقلب والسقوط على الأرض كالخرقة الملقاة وكاللحم على الوضم وهذا ظن الجهال فإن ذلك حرام فى الشرع والشرع قد أثنى على المتوكلين فكيف ينال مقام من مقامات الدين بمحظورات الدين بل نكشف الغطاء عنه ونقول إنما يظهر تأثير التوكل فى حركة العبد وسعيه بعلمه إلى مقاصده وسعى العبد باختياره إما أن يكون لأجل جلب نافع هو مفقود عنده كالكسب أو لحفظ نافع هو موجود عنده كالادخار أو لدفع ضار لم ينزل به كدفع الصائل والسارق والسباع أو لإزالة ضار قد نزل به كالتداوى من المرض فمقصود حركات العبد لا تعدو هذه الفنون الأربعة وهو جلب النافع أو حفظه أو دفع الضار أو قطعه فلنذكر شروط التوكل ودرجاته فى كل واحد منها مقرونا بشواهد الشرع الفن الأول فى جلب النافع فنقول فيه الأسباب التى بها يجلب النافع على ثلاث درجات مقطوع به ومظنون ظنا يوثق به وموهوم وهما لا تثق النفس به ثقة تامة ولا تطمئن إليه الدرجة الأولى المقطوع به وذلك مثل الأسباب التى ارتبطت المسببات بها بتقدير الله ومشيئته ارتباطا مطردا لا يختلف كما أن الطعام إذا كان موضوعا بين يديك وأنت جائع محتاج ولكنك لست تمد اليد إليه وتقول أنا متوكل وشرط التوكل ترك السعى ومد اليد إليه سعى وحركة وكذلك مضغه بالأسنان وابتلاعه بإطباق أعالى الحنك على أسافله فهذا جنون محض وليس من التوكل فى شىء فإنك إن انتظرت أن يخلق الله تعالى فيك شبعا دون الخبز أو يخلق فى الخبز حركة إليك أو يسخر ملكا ليمضغه لك ويوصله إلى معدتك فقد جهلت سنة الله تعالى وكذلك لو لم تزرع الأرض وطمعت فى أن يخلق الله تعالى نباتا من غير بذر أو تلد زوجتك من غير وقاع كما ولدت مريم عليها السلام فكل ذلك جنون وأمثال هذا مما يكثر ولا يمكن إحصاؤه أليس التوكل فى هذا المقام بالعمل بل بالحال والعلم أما العلم فهو أن تعلم أن الله تعالى خلق الطعام واليد والأسنان وقوة الحركة وأنه هو الذى يطعمك ويسقيك وأما الحال فهو أن يكون سكون قلبك واعتمادك على فعل الله تعالى لا على اليد والطعام وكيف تعتمد على صحة يدك وربما تجف فى الحال وتفلج وكيف تعول على قدرتك وربما يطرأ عليك فى الحال ما يزيل عقلك ويبطل قوة حركتك وكيف تعول على حضور الطعام وربما يسلط الله تعالى