نافع وما بينهما درجات متشابهة فما يقرب من الزيادة وإن لم يكن سما قاتلا فهو مضر وما يقرب من الضرورة فهو وإن لم يكن دواء نافعا لكنه قليل الضرر والسم محظور شربه والدواء فرض تناوله وما بينهما مشتبه أمره فمن احتاط فإنما يحتاط لنفسه ومن تساهل فإنما يتساهل على نفسه ومن استبرأ لدينه وترك ما يريبه إلى ما لا يريبه ورد نفسه إلى مضيق الضرورة فهو الآخذ بالحزم وهو من الفرق الناجية لا محالة .
والمقتصر على قدر الضرورة والمهم لا يجوز أن ينسب إلى الدنيا بل ذلك القدر من الدنيا هو عين الدين لأنه شرط الدين والشرط من جملة المشروط .
ويدل عليه ما روى أن إبراهيم الخليل عليه السلام أصابته حاجة فذهب إلى صديق له يستقرضه شيئا فلم يقرضه فرجع مهموما فأوحى الله تعالى إليه لو سألت خليلك لأعطاك فقال يا رب عرفت مقتك للدنيا فخفت أن أسالك منها شيئا فأوحى الله تعالى إليه ليس الحاجة من الدنيا فإذن قدر الحاجة من الدين وما وراء ذلك وبال في الآخرة وهو في الدنيا أيضا كذلك يعرفه من يخبر أحوال الأغنياء وما عليهم من المحنة في كسب المال وجمعه وحفظه واحتمال الذل فيه وغاية سعادته به أن يسلم لورثته فيأكلون وربما يكونون أعداء له وقد يستعينون به على المعصية فيكون هو معينا لهم عليها ولذلك شبه جامع الدنيا ومتبع الشهوات بدود القز لا يزال ينسج على نفسه حيا ثم يروم الخروج فلا يجد مخلصا فيموت ويهلك بسبب عمله الذى عمله بنفسه فكذلك كل من اتبع شهوات الدنيا فإنما يحكم على قلبه بسلاسل تقيده بما يشتهيه حتى تتظاهر عليه السلاسل فيقيده المال والجاه والأهل والولد وشماتة الأعداء ومراءاة الأصدقاء وسائر حظوظ الدنيا فلو خطر له أنه قد أخطأ فيه فقصد الخروج من الدنيا لم يقدر عليه ورأى قلبه مقيدا بسلاسل وأغلال لا يقدر على قطعها ولو ترك محبوبا من محابه باختياره كاد أن يكون قاتلا لنفسه وساعيا في هلاكه إلى أن يفرق ملك الموت بينه وبين جميعها دفعة واحدة .
فتبقى السلاسل في قلبه معلقة بالدنيا التى فاتته وخلفها فهى تجاذبه إلى الدنيا ومخالب ملك الموت قد علقت بعروق قلبه تجذبه إلى الآخرة فيكون أهون أحواله عند الموت أن يكون كشخص ينشر بالمنشار ويفصل أحد جانبيه عن الآخر بالمجاذبة من الجانبين والذى ينشر بالمنشار إنما ينزل المؤلم ببدنه ويؤلم قلبه بذلك بطرق السراية من حيث أثره فما ظنك بألم يتمكن أولا من صميم القلب مخصوصا به لا بطريق السراية إليه من غيره فهذا أول عذاب يلقاه قبل ما يراه من حسرة فوت النزول في أعلى عليين وجوار رب العالمين فبالنزوع إلى الدنيا يحجب عن لقاء الله تعالى وعند الحجاب تتسلط عليه نار جهنم إذ النار غير مسلطة إلا على محجوب .
قال الله تعلى كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم فرتب العذاب بالنار على ألم الحجاب وألم الحجاب كاف من غير علاوة النار فكيف إذا أضيفت العلاوة إليه فنسأل الله تعالى أن يقرر في أسماعنا ما نفث في روع رسول الله A حيث قيل له أحبب من أحببت فإنك مفارقه // حديث نفث في روعه أحبب من أحببت فإنك مفارقه تقدم // وفي معنى ما ذكرناه من المثال قول الشاعر .
كدود كدود القز ينسج دائما ... ويهلك غما وسط ما هو ناسجه .
ولما انكشف لأولياء الله تعالى أن العبد مهلك نفسه بأعماله واتباعه هوى نفسه إهلاك دود القز نفسه رفضوا الدنيا بالكلية حتى قال الحسن رأيت سبعين بدريا كانوا فيما أحل الله لهم أزهد منكم فيما حرم الله عليكم .
وفي لفظ آخر كانوا بالبلاء أشد فرحا منكم بالغصب والرخاء لو رأيتموهم قلتم مجانين ولو رأوا خياركم قالوا